كيف تخلص السفراء الأربعة للإمام المهدي (عج) من متابعة الدولة العبّاسية؟

, منذ 1 سنة 673 مشاهدة

من الأسئلة التي تتوارد بخصوص السفراء وتداولتها أخيراً بعض وسائل التواصل الاجتماعي: كيف أمكن للسفراء العمل في ظلِّ وجود الدولة العبّاسيَّة، رغم أنَّ العبّاسيِّين كانوا يبحثون عن أيِّ خيط يوصلهم إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؟ فهل يُعقَل أنْ يعمل السفراء بحرّيَّة رغم أنَّهم كانوا معروفين في الأوساط العامَّة ولا تتبعهم السلطة العبّاسيَّة ليصلوا من خلالهم إلى الإمام (عجَّل الله فرجه)؟ ألَا يوجب ذلك احتمال كونهم على علاقة مع السلطة وأنَّهم لم يكونوا يلتقون بالإمام (عجَّل الله فرجه)؟ هذا مع ملاحظة أنَّ السفارة استمرَّت ما يقرب من سبعين سنة.

والجواب:

أوَّلاً: أنَّ ذلك الاستبعاد كان مبتنياً على الأسباب الطبيعيَّة وقطع ربط المسألة بالأسباب الغيبيَّة، ولا شكَّ أنَّ هذه المسألة مرتبطة بالغيب، والغيب وإنْ أخرج المسألة عن الأسباب المألوفة إلَّا أنَّه لا يُخرجها عن السببيَّة، وهو تعالى مسبِّب الأسباب.

﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: ٨٢).

﴿وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: ٢١).

﴿إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ (الطلاق: ٣).

وقد تولّى الله تعالى الدفاع عن المؤمنين حين قال: ﴿إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ (الحجّ: ٣٨).

حين اقتضت الحكمة أنْ يُبعَث في بني إسرائيل نبيٌّ وعَلِمَ فرعون بذلك طافت زبانيته في بيوت بني إسرائيل يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، في وقت كان هو الذي يتولّى رعاية ذلك النبيِّ؛ إذ اتَّخذوه ولداً، وقبل ذلك أخفى علامة حمله إلى ليلة الولادة كما حصل ذلك أيضاً مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حيث نُقِلَ جدُّه الإمام الهادي (عليه السلام) إلى سامراء تحسُّباً لمجيء الإمام الثاني عشر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.

حين اقتضت الإرادة الإلهيَّة أنْ يبقى النبيُّ يونس (عليه السلام) حيًّا في بطن الحوت بقي تطوف به البحار، مع أنَّ ذلك أغرب من أنْ يُربّي طاغوت عدوَّه دون أن يعلم.

حين اقتضت الحكمة أنْ يُبعَث عُزير من الموت عاد إلى الحياة بعد عشرات السنين من الموت إلى الحياة. وهل لمؤمن أنْ يستبعد ذلك على الله تعالى؟

وأغرب من قضيَّة عُزير ما حصل لأصحاب الكهف الذين ناموا لمدَّة ﴿ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ (الكهف: ٢٥)، لم يموتوا ولم تأكل الأرض أجسادهم، ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً﴾ (الكهف: ١٨).

ثانياً: أنَّ التاريخ قد حفظ لنا حوادث عن أتباع الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) ممَّن كانوا يعملون بقرب الطواغيت، وربَّما جاءت الأخبار عن البعض أنَّه من طائفة الأعداء، فمن غابر الأيّام يُحدِّثنا القرآن عن مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه: ﴿وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (غافر: ٢٨).

ومن تاريخنا الحديث يُنقَل إلينا أنَّ المقاومة في الدول التي احتلَّتها ألمانيا في الحرب العالميَّة الثانية كانت تمارس العمل الثوري المسلَّح في تلك الدول رغم وحشيَّة (الغستابو) في التعاطي مع المناوئين لهم، ورغم تطوُّر وسائل التجسُّس والمتابعة والإمكانات الهائلة، إلَّا أنَّ الكثير من هؤلاء الثوّار نجوا، بل وتطوَّر عملهم بشكل كبير إلى أنْ رأوا هزيمة النازيين وموت (هتلر) بعد أنْ وضعت الحرب أوزارها، وعمل هؤلاء كان مسلَّحاً، وعمل السفراء لم يكن فيه أيّ جانب عسكري، وأيّ نوع مقاومة مسلَّحة.

والمجموعات المسلَّحة التي كانت تناهض الشيوعيَّة في الاتِّحاد السوفيتي أيّام (ستالين) طال زمان عملها دون علم الـ(KGB) بها مع كلِّ الإمكانات المسخَّرة له. والمجموعات الجاسوسيَّة تجوب الدنيا لا تنجو منها حتَّى أقوى مخابرات العالم كالـ(CIA) وغيرها، مع وجود أقسام متخصِّصة في مكافحة التجسُّس، وكثير من الجواسيس لا يُكتَشف أمرهم إلى زمان انقضاء مهمّاتهم أو إلى أُخريات حياتهم.

وإذا رجعنا إلى التاريخ مرَّة أُخرى نجد الروايات تحكي لنا عن عليِّ بن يقطين صاحب الإمام الكاظم (عليه السلام)، وقد كان الوشاة يسعون به عند الرشيد لكن رعاية الإمام الكاظم (عليه السلام) له منعت أنْ يُوصَل إليه بسوء.

وقد كان الإمام (عجَّل الله فرجه) يدفع أيضاً عن وكلائه، فقد روى الكليني (رحمه الله) عن الحسين بن الحسن العلوي، قال: كان رجل من ندماء روزحسني وآخر معه، فقال له: هو ذا يجبي الأموال وله وكلاء وسمُّوا جميع الوكلاء في النواحي، وأُنهي ذلك إلى عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: اطلبوا أين هذا الرجل، فإنَّ هذا أمر غليظ، فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض على الوكلاء، فقال السلطان: لا، ولكن دسُّوا لهم قوماً لا يُعرَفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قُبِضَ عليه، قال: فخرج بأنْ يتقدَّم إلى جميع الوكلاء أنْ لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأنْ يمتنعوا من ذلك، ويتجاهلوا الأمر، فاندسَّ لمحمّد بن أحمد رجل لا يعرفه وخلا به، فقال: معي مال أُريد أنْ أُوصله، فقال له محمّد: غلطت أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطَّفه ومحمّد يتجاهل عليه، وبثُّوا الجواسيس، وامتنع الوكلاء كلُّهم لما كان تقدَّم إليهم(١).

وروى (رحمه الله) عن الحسن بن الفضل بن زيد اليماني، قال: كتب أبي بخطِّه كتاباً فورد جوابه، ثمّ كتبت بخطّي فورد جوابه، ثمّ كتب بخطِّ رجل من فقهاء أصحابنا فلم يرد جوابه، فنظرنا فكانت العلَّة أنَّ الرجل تحوَّل قرمطيًّا(2).

وروى (رحمه الله) عن عليِّ بن محمّد، قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحير(3)، فلمَّا كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي، فقال له: الق بني الفرات والبرسيين(4)، وقل لهم: لا يزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أنْ يُتفقَّد كلُّ من زار فيُقبَض [عليه](5).

والرواية صحيحة.

ثالثاً: أنَّ السفراء كانوا يعملون بطريقة مدروسة مُحْكَمة لدفع أنظار الظالمين عنهم، فقد أخفوا عملهم إلَّا عن الثُلَّة القليلة المخلصة ممَّن يُطمَأنُّ لهم وعرفوا منهم صدق الولاء.

ومضافاً إلى ذلك كانت لهم مجموعة خطوات هامَّة:

منها: أنَّهم نقلوا عملهم من سامراء عاصمة الدولة العبّاسيَّة آنذاك إلى بغداد، وكان بُعد المسافة بين المدينتين كفيلاً بتخفيف المتابعة لهم.

ومنها: أنَّهم قد تخفُّوا ببعض العناوين الأُخرى، فالسفير الأوَّل كان سمّاناً، أي يمتهن بيع السمن.

ومنها: أنَّهم كانوا يعملون بالتقيَّة، خصوصاً عند اشتداد الأمر عليهم، وهذا ما حفظته الروايات عن السفير الثالث الحسين بن روح (رضي الله عنه).

فقد نقل الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) من الوقائع التي استعمل فيها بعض السفراء التقيَّة، ولذا كان في موقع جليل حتَّى عند العامَّة، فقد قال:

وكان أبو القاسم (رحمه الله) من أعقل الناس عند المخالف والموافق، ويستعمل التقيَّة، فروى أبو نصر هبة الله بن محمّد، قال: حدَّثني أبو عبد الله بن غالب حمو أبي الحسن بن أبي الطيِّب، قال: ما رأيت من هو أعقل من الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، ولعهدي به يوماً في دار ابن يسار، وكان له محلٌّ عند السيِّد والمقتدر عظيم، وكانت العامَّة أيضاً تُعظِّمه، وكان أبو القاسم يحضر تقيَّةً وخوفاً.

وعهدي به وقد تناظر اثنان، فزعم واحد أنَّ أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ عمر ثمّ عليّ، وقال الآخر: بل عليٌّ أفضل من عمر، فزاد الكلام بينهما.

فقال أبو القاسم (رضي الله عنه): الذي اجتمعت الصحابة عليه هو تقديم الصدِّيق، ثمّ بعده الفاروق، ثمّ بعده عثمان ذو النورين، ثمّ عليٌّ الوصيِّ، وأصحاب الحديث على ذلك، وهو الصحيح عندنا، فبقي من حضر المجلس متعجِّباً من هذا القول، وكان العامَّة الحضور يرفعونه على رؤسهم، وكثر الدعاء له والطعن على من يرميه بالرفض.

فوقع عليَّ الضحك، فلم أزل أتصبَّر وأمنع نفسي وأدسُّ كُمّي في فمي، فخشيت أنْ أفتضح، فوثبت عن المجلس، ونظر إليَّ ففطن بي، فلمَّا حصلت في منزلي فإذا بالباب يُطرَق، فخرجت مبادراً، فإذا بأبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) راكباً بغلته قد وافاني من المجلس قبل مضيِّه إلى داره.

فقال لي: يا أبا عبد الله، أيَّدك الله، لِمَ ضحكت، فأردت أنْ تهتف بي كأنَّ الذي قلته عندك ليس بحقٍّ؟

فقلت: كذاك هو عندي.

فقال لي: اتَّق الله أيُّها الشيخ فإنّي لا أجعلك في حلٍّ، تستعظم هذا القول منّي.

فقلت: يا سيِّدي، رجل يرى بأنَّه صاحب الإمام ووكيله يقول ذلك القول لا يُتعجَّب منه و[لا] يُضحَك من قوله هذا؟

فقال لي: وحياتك لئن عدت لأهجرنَّك، وودَّعني وانصرف(6).

وقال أبو نصر هبة الله: وحدَّثني أبو أحمد درانويه الأبرص الذي كانت داره في درب القراطيس، قال: قال لي: إنّي كنت أنا وإخوتي ندخل إلى أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) نعامله، قال: وكانوا باعة، ونحن مثلاً عشرة تسعة نلعنه وواحد يُشكِّك، فنخرج من عنده بعدما دخلنا إليه تسعة نتقرَّب إلى الله بمحبَّته وواحد واقف، لأنَّه كان يجارينا من فضل الصحابة ما رويناه وما لم نروه، فنكتبه لحسنه عنه (رضي الله عنه)(7).

وفي الغيبة للطوسي: أخبرني جماعة، عن أبي عبد الله أحمد بن محمّد بن عيّاش، عن أبي غالب الزراري، قال: قَدِمْتُ من الكوفة وأنا شابٌّ إحدى قدماتي ومعي رجل من إخواننا قد ذهب على أبي عبد الله اسمه، وذلك في أيّام الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رحمه الله) واستتاره، ونصبه أبا جعفر محمّد بن عليٍّ المعروف بالشلمغاني، وكان مستقيماً لم يظهر منه ما ظهر (منه) من الكفر والإلحاد، وكان الناس يقصدونه ويلقونه لأنَّه كان صاحب الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح سفيراً بينهم وبينه في حوائجهم ومهمّاتهم.

فقال لي صاحبي: هل لك أنْ تلقى أبا جعفر وتُحدِث به عهداً، فإنَّه المنصوب اليوم لهذه الطائفة، فإنّي أُريد أنْ أسأله شيئاً من الدعاء يكتب به إلى الناحية.

قال: فقلت [له]: نعم، فدخلنا إليه، فرأينا عنده جماعة من أصحابنا، فسلَّمنا عليه وجلسنا، فأقبل على صاحبي، فقال: من هذا الفتى معك؟

فقال له: رجل من آل زرارة بن أعين.

فأقبل عليَّ، فقال: من أيّ زرارة أنت؟

فقلت: يا سيِّدي، أنا من ولد بكير بن أعين أخي زرارة.

فقال: أهل بيت جليل عظيم القدر في هذا الأمر.

فأقبل عليه صاحبي، فقال له: يا سيِّدنا، أُريد المكاتبة في شيء من الدعاء.

فقال: نعم.

قال: فلمَّا سمعت هذا اعتقدت أنْ أسأل أنا أيضاً مثل ذلك، وكنت اعتقدت في نفسي ما لم أُبده لأحد من خلق الله حال والدة أبي العبّاس ابني، وكانت كثيرة الخلاف والغضب عليَّ، وكانت منّي بمنزلة، فقلت في نفسي: أسأل الدعاء لي في أمر قد أهمَّني ولا أُسمّيه، فقلت: أطال الله بقاء سيِّدنا، وأنا أسأل حاجة.

قال: وما هي؟

قلت: الدعاء لي بالفرج من أمر قد أهمَّني.

قال: فأخذ درجاً بين يديه كان أثبت فيه حاجة الرجل، فكتب: (و)الزراري يسأل الدعاء له في أمر قد أهمَّه.

قال: ثمّ طواه، فقمنا وانصرفنا، فلمَّا كان بعد أيّام قال لي صاحبي: ألَا نعود إلى أبي جعفر فنسأله عن حوائجنا التي كنّا سألناه، فمضيت معه ودخلنا عليه، فحين جلسنا عنده أخرج الدرج، وفيه مسائل كثيرة قد أُجيب في تضاعيفها، فأقبل على صاحبي، فقرأ عليه جواب ما سأل، ثمّ أقبل عليَّ وهو يقرأ، [فقال:] «وأمَّا الزراري وحال الزوج والزوجة فأصلح الله ذات بينهما».

قال: فورد عليَّ أمر عظيم، وقمنا، فانصرفت.

فقال لي: قد ورد عليك هذا الأمر.

فقلت: أعجب منه.

قال: مثل أيّ شيء؟

فقلت: لأنَّه سرٌّ لم يعلمه إلَّا الله تعالى وغيري، فقد أخبرني به.

فقال: أتشكُّ في أمر الناحية؟ أخبرني الآن ما هو؟ فأخبرته، فعجب منه.

ثمّ قضى أنْ عدنا إلى الكوفة، فدخلت داري، وكانت أُمُّ أبي العبّاس مغاضبة لي في منزل أهلها، فجاءت إليَّ، فاسترضتني واعتذرت ووافقتني ولم تخالفني حتَّى فرَّق الموت بيننا... الخبر(8).

والرواية وإنْ لم تكن تامَّة سنداً إلَّا أنّا أوردناها وما سبقها للاستشهاد وليس للاستدلال.

وفي الكافي عن عليِّ بن محمّد، عن محمّد بن صالح، قال: لمَّا مات أبي وصار الأمر لي، كان لأبي على الناس سفاتج من مال الغريم، فكتبت إليه أُعلمه، فكتب: «طالبهم واستقض عليهم»، فقضاني الناس إلَّا رجل واحد كانت عليه سفتجة بأربعمائة دينار، فجئت إليه أُطالبه، فماطلني واستخفَّ بي ابنه وسفَّه عليَّ، فشكوت إلى أبيه، فقال: وكان ماذا؟ فقبضت على لحيته وأخذت برجله وسحبته إلى وسط الدار وركلته ركلاً كثيراً، فخرج بأنَّه يستغيث بأهل بغداد ويقول: قمّي رافضي قد قتل والدي، فاجتمع عليَّ منهم الخلق، فركبت دابَّتي وقلت: أحسنتم يا أهل بغداد تميلون مع الظالم على الغريب المظلوم، أنا رجل من أهل همدان من أهل السُّنَّة، وهذا ينسبني إلى أهل قم والرفض ليذهب بحقّي ومالي. قال: فمالوا عليه وأرادوا أنْ يدخلوا على حانوته حتَّى سكَّنتهم، وطلب إليَّ صاحب السفتجة وحلف بالطلاق أنْ يوفيني مالي حتَّى أخرجتهم عنه(9).

وقد قال المجلسي (رحمه الله) في هذا الخبر: حسن كالصحيح(١0).

ويشهد لما ذكرناه من إعمال التقيَّة أنَّهم لم يكونوا معروفين عند عامَّة الشيعة، ولذا تجد عند تصفُّحك في الروايات أنَّ عامَّة الشيعة كانت تُكلِّف الخواصَّ أنْ تذهب بما عليها من الحقوق إلى سفراء الإمام ووكلائه.

ويظهر أيضاً للمتتبِّع في الروايات أنَّ الخواصَّ لم يكونوا يعرفون السفراء، ولذلك ما كانوا يُسلِّمون إليهم الأموال إلَّا بعد البيِّنة والاختبار، فإذا جاءهم منهم أمر بيِّن سلَّموا الأموال.

ولعدم وضوح الأمر عندهم ابتداءً كان البعض منهم يذهب إلى جعفر عمِّ الإمام حتَّى إذا لم يجدوا عنده ما يريدون امتنعوا عن تسليمه الأموال وذهبوا إلى مظانٍّ أُخرى حتَّى يقعوا على مبتغاهم.

ممَّا يكشف لك عن عدم معرفة صفة السفراء إلَّا ضمن نطاق دائرة ضيِّقة جدًّا.

ومع هذا لِمَ الاستبعاد أنْ لا تكون السلطات قد علمت بشأنهم؟

وكيف كان، ففي الروايات دلائل على أنَّ السفراء لم يكونوا معروفين عند عامَّة الشيعة، بل عند الكثير من خواصِّهم، فكيف تعرفهم أعداؤهم بنحو سهل؟

ففي الإرشاد: أخبرني أبو القاسم جعفر بن محمّد، عن محمّد بن يعقوب، عن عليِّ بن محمّد، عن الحسن بن عيسى العريضي، قال: لمَّا مضى أبو محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) ورد رجل من مصر بمال إلى مكَّة لصاحب الأمر، فاختُلِفَ عليه، وقال بعض الناس: إنَّ أبا محمّد قد مضى عن غير خلف، وقال آخرون: الخلف من بعده جعفر، وقال آخرون: الخلف من بعده ولده، فبعث رجلاً يُكنّى أبا طالب إلى العسكر يبحث عن الأمر وصحَّته، ومعه كتاب، فصار الرجل إلى جعفر وسأله عن برهان، فقال له جعفر: لا يتهيَّأ لي في هذا الوقت، فصار الرجل إلى الباب، وأنفذ الكتاب إلى أصحابنا الموسومين بالسفارة، فخرج إليه: «آجرك الله في صاحبك فقد مات، وأوصى بالمال الذي كان معه إلى ثقة يعمل فيه بما يجب»، وأُجيب عن كتابه، وكان الأمر كما قيل له(١1).

وفي رواية أحمد الدينوري: قال: فقلت: يا قوم، هذه حيرة، ولا نعرف الباب في هذا الوقت، قال: فقالوا: إنَّما اخترناك لحمل هذا المال لما نعرف من ثقتك وكرمك، فاحمله، على ألَّا تُخرجه من يديك إلَّا بحجة... الخبر(١2).

وفي رواية أحمد بن أبي روح، قال: وجَّهت إليَّ امرأة من أهل دينور، فأتيتها، فقالت: يا بن أبي روح، أنت أوثق من في ناحيتنا ديناً وورعاً، وإنّي أُريد أنْ أُودعك أمانة أجعلها في رقبتك تُؤدّيها وتقوم بها، فقلت: أفعل إنْ شاء الله تعالى، فقالت: هذه دراهم في هذا الكيس المختوم، لا تحلُّه ولا تنظر فيه حتَّى تُؤدّيه إلى من يُخبرك بما فيه، وهذا قرطي يساوي عشرة دنانير، وفيه ثلاث حبّات لؤلؤ تساوي عشرة دنانير، ولي إلى صاحب الزمان حاجة أُريد أنْ يُخبرني بها قبل أنْ أسأله عنها، فقلت: وما الحاجة؟ قالت: عشرة دنانير استقرضتها أُمّي في عرسي لا أدري ممَّن استقرضتها، ولا أدري إلى من أدفعها، فإن أخبرك بها فادفعها إلى من يأمرك بها...، إلى أنْ وصل إلى سُرَّ من رأى وحصل على ما يريد(١3)، ولم ننقل الرواية كاملة لأنَّ محلَّ الشاهد فيها أنَّهم لا يقبلون من كلِّ أحد إلَّا ببيِّنة، وهذا يسري حتَّى على العوامِّ من الشيعة.

وفي (كمال الدِّين): حدَّثنا أبي (رضي الله عنه)، عن سعد بن عبد الله، عن أبي حامد المراغي، عن محمّد بن شاذان بن نعيم، قال: بعث رجل من أهل بلخ بمال ورقعة ليس فيها كتابة قد خطَّ فيها بإصبعه كما تدور من غير كتابة، وقال للرسول: احمل هذا المال، فمن أخبرك بقصَّته وأجاب عن الرقعة فأوصل إليه المال، فصار الرجل إلى العسكر وقد قصد جعفراً وأخبره الخبر، فقال له جعفر: تقرُّ بالبداء؟ قال الرجل: نعم، قال له: فإنَّ صاحبك قد بدا له وأمرك أنْ تُعطيني المال، فقال له الرسول: لا يُقنعني هذا الجواب، فخرج من عنده وجعل يدور على أصحابنا، فخرجت إليه رقعة قال: «هذا مال قد كان غرَّر به، وكان فوق صندوق فدخل اللصوص البيت وأخذوا ما في الصندوق»، وسلَّم المال وردت عليه الرقعة وقد كُتِبَ فيها: «كما تدور، وسألت الدعاء فعل الله بك، وفعل»(١4).

والرواية تامَّة سنداً، فأبو حامد المراغي هو أحمد بن إبراهيم المراغي، قد روى الكشّي توقيعاً شريفاً يدلُّ على مدحه، وقال ابن داود عنه: إنَّه ممدوح عظيم الشأن(١5).

ومحمّد بن شاذان بن نعيم ثقة، كان من وكلاء الناحية(١6).

وسعد هو ابن عبد الله الأشعري القمّي الجليل القدر.

ووالد الصدوق عَلَم في الوثاقة.

ولكن ليس من الواضح في الرواية أنَّ محمّد بن شاذان قد رأى الكتاب وعرف الخطَّ الذي فيه.

والأمر سهل؛ لأنَّ ذكر الرواية وما سبقها لمجرَّد الاستشهاد وليس للاستدلال، ومن الواضح فيها أنَّهم لم يكونوا يقبلون من أيِّ أحد أنْ يُخبرهم عن الإمام (عجَّل الله فرجه) أو يأخذ المال له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي (ج ١/ ص ٥٢٥/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح ٣٠).

(2) الكافي (ج ١/ ص ٥٢٠/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح ١٣).

(3) في بعض النُّسَخ: (الحائر).

(4) برس: ناحية بأرض بابل. (معجم البلدان: ج ١/ ص ١٠٣).

(5) الكافي (ج ١/ ص ٥٢٥/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح ٣١).

(6) الغيبة للطوسي (ص ٣٨٤ و٣٨٥/ ح ٣٤٧).

(7) الغيبة للطوسي (ص ٣٨٦/ ح ٣٤٩).

(8) الغيبة للطوسي (ص ٣٠٢ - ٣٠٤/ ح ٢٥٦).

(9) الكافي (ج ١/ ص ٥٢١ و٥٢٢/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح ١٥).

(10) مرآة العقول (ج ٦/ شرح ص ١٨٩).

(11) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٦٤ و٣٦٥).

(12) دلائل الإمامة (ص ٥١٩ - ٥٢٤/ ح ٤٩٣/٩٧).

(13) الخرائج والجرائح (ج ٢/ ص ٦٩٩ - ٧٠٢/ ح ١٧).

(14) كمال الدِّين (ص ٤٨٨ و٤٨٩/ باب ٤٥/ ح ١١).

(15) راجع: معجم رجال الحديث (ج ٢/ ص ١٦/ الرقم ٣٨٣).

(16) راجع: معجم رجال الحديث (ج ١٦/ ص ٢٦ - ٢٩/ الرقم ١٠١٧٧).

المصدر : إرساء المحكمات وتبديد الشبهات في القضية المهدوية ـ الشيخ كاظم القره غولي

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.0793 Seconds