يطالعنا التاريخ منذ القرن الأوّل بظهور بعض الأفراد الذين ادّعوا وانتحلوا عنوان المهدي، أم نسبهم الآخرون إلى ذلك، رغم أنّ هؤلاء الأفراد لم يفلحوا في تحقيق مدعاهم من قبيل بسط العدل والقسط وإصلاح العالم، بل لم يتمكنوا من ممارسة الإصلاح حتّى على مستوى المناطق الصغيرة التي عاشوا فيها.
ولعلّ أوّل فرد جعلوا له ذلك الاسم - رغم عدم رضاه - محمّد بن الحنفية، حيث كانت تعتقد الكيسانية: أنّه المهدي الموعود وأنّه لم يمت، بل هو في جبل رضوي (1) يحفظه أسدان.
والحال نعلم أنّ محمّد بن الحنفية توفي في العام 80 أو 81 هـ، ودفن في البقيع - المقبرة المعروفة في المدينة - وبالطبع فقد خمدت اليوم أصوات تلك الفرقة ولم تعد تسمع.
ثمّ أقدم بعض خلفاء بني العباس بغية الخلافة واستغلال عقائد بعض السذج من الناس، وعلى ضوء الاستعداد الذهني للمسلمين وانتظار المهدي الموعود، بانتحال هذا الاسم وزعموا أنّهم المهدي. إلاّ أنّ مضي الزمان أثبت أنّهم ليس فقط لم يكونوا المهدي، بل كانوا من الظلمة الذين يقضي القضاء عليهم بسيف المهدي.
وقد استمرّ هذا الأمر فكان البعض هنا وهناك يزعم أنّه المهدي ويجتمع حوله عدد من الأفراد، لكن سرعان ما ينكشف أمره.
طبعًا هذا الادّعاء يبدو كبيراً لا يصمد أمامه صاحبه؛ وذلك لأنّ أهداف هذا المصلح تتمثل في ملء الأرض قسطًا وعدلاً، وهذا يكفي لإفشال مخططات كلّ من يدعي أنّه المهدي.
وقد تفاوتت دوافع الأفراد في هذا الادّعاء، فالبعض كان مصاباً ببعض الأمراض النفسية أو السذاجة على الأقل، بينما كان البعض الآخر يسعى وراء المنصب، فادّعى ذلك لإشباع رغبته دون التأمل في عواقب الأمر.
كما كان البعض أُلعوبة بيد أعداء الإسلام الذين يستغلونهم لحرف أفكارهم من القضايا الحيوية التي يواجهونها، أو لبث الفرقة والاختلاف والنفاق بين صفوف المسلمين وإضعاف قدرة المذهب، ولا سيّما قدرة علماء الدين الذين يشكلون الخطر الرئيسي الذي يهدد مصالحهم.
والخلاصة، إنّ ادّعاء المهدوية تواصل حتّى الفترة الأخيرة حين برز «السيّد محمّد علي باب»، رغم عدم قدرته بادئ الأمر على مثل هذا الادّعاء، بل على ضوء الوثائق الحية وشهادته المذكورة في كتبه أنّه لم يدع المهدوية، بل اكتفى بادعائه الباب وأنّه النائب الخاصّ للمهدي.
ولكن مع مرور الزمان وتجمع البعض حوله يجعله يغير رأيه فزعم أنّه المهدي (2).
وتفيد القرائن والوثائق عن سيرته وحياته وأتباعه - وقد جمعت بشكل رائع - أنّ ادّعاءَه هذا يُعزى إلى الأسباب الثلاثة؛ أي من جانب الدول الاستعمارية - كروسيا وبريطانيا وأميركا - حيث كان يتحرك على ضوء توجيهاتهم ويحظى بدعمهم وإسنادهم، كما كان يسعى إلى الحصول على المنصب، وكان يشكو من بعض الأمراض النفسية (3).
ويبدو أنّه كانت هناك شبكة كبيرة، وقد عدّه بعض أعوانه متخلفا فمنحوه شخصية تلعب دور مقدمة الظهور، وكان لهم دعاة كثيرون. إلاّ أن تشتت هذه الفرق) من جانب، ونشر الوثائق (4)، الحية عن الارتباط المباشر بالدول الاستعمارية، من جانب آخر (5).
والأهم من كلّ ذلك عدم وجود المضمون الذي يسعه تلبية رغبات حتّى عوام الناس، إلى جانب فضحهم من قبل بعض المسلمين الواعين على أنّهم «حزب سياسي استعماري»، كلّ هذه الأمور كشفت سريعًا عن حقيقة أمرهم.
طبعًا بحثنا ليس في تقصي نقاط ضعف هؤلاء، فهذا يتطلب كتابًا مستقلاً ولحسن الحظّ فقد أُلفت الكثير من الكتب بهذا ل الشأن وأنّ بعضها رائع في مضمونه (6).
وهدفنا هنا بيان موضوعين:
1 ـ يقول البعض: نعلم أنّ استغلالاً كبيرًا حصل ويحصل بالنسبة إلى الاعتقاد بظهور المهدي. أوليس من الأفضل أن نسكت عن هذا الموضوع لكي لا يكون شماعة فيستغلّه الآخرون، ولماذا نقر بشيء يمكن أن ينعكس علينا سلبًا؟
السؤال الآخر الذي يقابل السؤال الأوّل تقريبًا: هل كلّ من ادّعى المهدوية كان كاذبًا، ألا يحتمل صدق البعض، فلم يكن الجميع ممّن يسعى إلى المنصب أو كان أُلعوبة بيد الاستعمار؟
وهدفنا هنا الجواب عن هذين السؤالين مع تحليل لهما.
أمّا بشأن السؤال الأوّل، ف بدّ بادئ الأمر من طرح هذا السؤال: هل هنالك من حقيقة في هذه الدنيا لم تستغل من قبل الآخرين؟
أوَلم يدلّنا التاريخ على كلّ أولئك الذين ادّعوا النبوة، وما زالت هذه الادّعاءات قائمة حتّى في عصر الذرة والفضاء.
فما أحرانا أن ننسى أصل دعوة الأنبياء ونتنكر كالبراهمة لأصل النبوة لكي نتخلص من الأدعياء المستغلّين! هل هذا كلام منطقي؟
لقد سمعنا ونسمع الكثير من الأفراد الذين ينتحلون مهنة الطب والهندسة بغية إشباع بطونهم والحصول على الأموال، فهل يسعنا القول إنّ عنوان الطبيب أخذ يستغلّ من قبل البعض ولا بدّ من التنكر بصورة تامة لهذه المهنة.
إنّ مثل هذا الكم وإن بدا غاية البعد عن المنطق، إلاّ أنّ المؤسف أنّه مذكور في بعض كتب من ينكر أصل ظهور المهدي.
على كلّ حال، فإنّ قاعدة كلية في أنّ كلّ كذب يسعى لأن يلبس ثوب الصدق ليحظى بالاعتبار المطلوب، ليس هنالك من خائن وسارق وكاذب يظهر بصورته الحقيقية، بل يسعى لتحقيق أهدافه من خلال التظاهر بالأمانة والطهر والصدق. فهل هذا دليل
على عدم اعتبارية هذه المفاهيم الإنسانية الرفيعة، هذا أوّلاً.
وثانيًا: هل الاعتقاد بظهور المهدي حقيقة مستغلة أم وهم وخيال؟ إن سلمنا بأنّه حقيقة - وينبغي أن تكون كذلك لوجود عدّة أدلة على ذلك - فلا يمكن التخلي عنها لاستغلالها من قبل هذا أو ذاك، ولو فرضنا لم تكن حقيقة، فلابدّ من إسقاطها، سواء استغلت أم لم تستغل.
على كلّ حال، فإنّ أسلوب الاستفادة الصحيحة أو غير الصحيحة من موضوع لا يمكن أن تكون وسيلة لإصدار الحكم بشأن ذلك الموضوع.
فلو أصبحت الطاقة الذرية وسيلة حربية مستغلة من قبل الظلمة لتضرب بها منطقة هيروشيما وخلفت ثلاثمئة ألف قتيل ونفس هذا العدد من الجرحى الذين ما زالوا يعانون من تلك الجروح بعد مرور ثمانين سنة، فهل يدعونا هذا إلى التخلي عن هذه الطاقة العظيمة أو إنكار أصل وجودها؟ أم نسعى إلى الاستفادة الصحيحة منها ولضمان مصالح المجتمع البشري؟
أمّا السؤال الثاني فيبدو أهم وهو: هل كلّ من ادّعى المهدوية كان كاذبًا؟ ونعتقد أنّ الجواب عن هذا السؤال يبدو سه على ضوء العلامات ونتائج هذا الظهور العظيم.
فقد علمنا في الأبحاث السابقة أنّ للمهدي رسالة عالمية يسعى إلى تحقيقها من خلال الاستفادة من كافة الوسائل والإمكانات المتاحة.
ورسالته الأصلية القضاء على كافة أنواع الظلم والجور وإرساء قواعد الحكومة العالمية على أساس العدل والقسط ومكافحة التمييز والاستعمار والاستغلال.
فهو ينهض بمستوى الأفكار.
وهو الذي يعمل على تقدم العلوم والمعارف.
وهو الذي يحرك العالم في كافة المجالات.
وهو الذي يجمع كافة أتباع الديان تحت راية واحدة.
وهو الذي يقوم بالتوزيع العادل لثروات العالم.
وهو الذي ينعش الاقتصاد العالمي بحيث لا يبقى محتاج في العالم.
وهو الذي يعطي كلّ ذي حقّ حقه.
وهو الذي لا يدع مكانًا خربًا إلاّ عمَّره.
وسيبلغ الأمن في عصره مرحلة تجعل المرأة تنطلق من شرق العالم إلى غربه دون أن يسيء لها أحد.
وسيستخرج كنوز الأرض ويصنع المجتمع التوحيدي الموحد.
هذه هي المشاريع العملية والخطط المنبثقة عن تلك النهضة العالمية الكبرى في أكبر نهضة للتاريخ البشري، والتي أشارت إليها مختلف المصادر، وقد ذكرنا تفاصيلها في الفصول السابقة.
فهل استطاع أي من أولئك الأدعياء تحقيق واحد بالألف من هذه المشاريع، بل هل استطاع أي منهم أن ينظم منطقته أو حيّه على ضوء هذه البرامج؟
إنّنا نرى اليوم مدى اتساع رقعة الظلم والجور والاعتداء وهضم الحقوق؛ وقد أودت الحرب العالمية الأولى والثانية بحياة الملايين وجرحت الملايين وملأت العالم بالدماء.
وما زالت الهوة تتعمق يومًا بعد آخر بين البلدان الغنية والفقيرة؛ بحيث ينام كلّ ليلة ألف مليون من هذا العالم جوعى، وما زالت السجون مليئة بالأبرياء، وما زال الجبابرة يجرعون الناس أنواع العذاب، أي إنّ العالم ما زال يئنُّ من الظلم والجور، فليت شعري متى ملئ بالعدل والقسط؟ وهذا أقوى دليل على مزاعم أولئك الأدعياء، ردّ قصير لكنه حاسم وقاطع.
أجل ما زالت تلك الشمس لم تخترق الحجب ولا بدّ من الانتظار حتّى ذلك اليوم الذي تنقشع فيه كافة السحب والغيوم، فيضيء هذا العالم المظلم بنور طلعته البهية، وما أقرب هذا اليوم «أليس الصبح بقريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جبل قرب المدينة وقد ذكرنا سبب ذكر هذا الاسم في دعاء الندبة في كتابنا «الرد على الأسئلة الدينية».
(2) ورد في كتاب «ظهور الحقّ» الذي تقره هذه الفرقة) ص 173 (أنّ الباب كتب في أواسط العام 1886 )) في السجن رسالة إلى الملا عبد الخالق «أنا القائم الحقّ الذي أنتم بظهوره توعدون» فامتعض بشدة من هذا الادعاء.
(3) الدليل على مرضه النفسي إضافة إلى محتويات كتبه وعباراته التي تشبه تمامًا عبارات فرد مصاب)) بمرض نفسي، ما ورد في كتاب زعمائهم مثل كتاب «كشف الغطاء» للميرزا أبي الفضل الكلبايكاني من أنّ مجتهدي تبريز قالوا بعد استجوابهم «للباب» في ذلك المجلس «إنّ حديثك يبيح دمك، إلاّ أننا نحتمل وجود خبطة في دماغك فلا نصدر حكمًا بإعدامك.
(4) تجاوز عدد فرقهم لحدّ الآن العشرين فرقة.
(5) راجع كتب «كينازد الكوركي » و «برنس دالكوركي» وكتاب «بي بهائي باب وبها».
(6) راجع كتب «ماذا يقول البهائي » و «محاكمة وتحقيق » و «هدية النملة » و «برنس دالكوركي»
المصدر: مكارم الشيرازي، ناصر، الحكومة العالمية للأمام المهدي (عليه السلام)، ص255-262.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة