يبدأ عصر الظهور بولادة قاعدة ايمانية مجاهدة، تتصدى لحمل الرسالة وقيادة الامة في صراعها الجهادي ضد اعدائها المتآمرين عليها محلياً وعالمياً، وتكون ولادتها نتيجة طبيعية لحركة الانتظار الجهادية التغييرية، التي وصفها الإمام زين العابدين (عليه السلام) لابي خالد الكابلي بقوله:
".. يا أبا خالد.. إنّ أهل زمان غيبته، القائلين بإمامته، والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كلّ زمان.. لأنّ الله تبارك وتعالى.. جعلهم.. بمنزلة المجاهدين بين يديّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) بالسّيف، اولئك المخلصون حقّا، وشيعتنا صدقا، والدّعاة إلى دين الله عزّ وجلّ سرّا وجهرا"(1).
إن وجود هذه القاعدة من أهم العوامل الموضوعية والمقدمات السياسية التي تشارك في تعجيل حركة الظهور، فاذا تحققت فعلاً على الأرض، وشاهدناها بأم أعيننا في ساحة الصراع الحضاري، ضد أعداء الله من الطواغيت والظالمين، حينئذ نقطع بدخولنا في عصر الظهور، لأنها تشكل منعطفاً سياسياً وعقائدياً وجهادياً وحضارياً كبيراً في تاريخ الاسلام.
وقد بشرت الروايات بولادة هذه القاعدة الجماهيرية الجهادية، ووصفت جيلها بأنه جيل صلب لا يلين، ولا يقبل الذل والهوان والمساومة على الحق، تتوزع اقوى واعتى فصائله الثورية المقاتلة، بين ايران والعراق واليمن والشام ومصر،... وهو جيل منفتح لا يعرف العصبية والانغلاق على الذات، ولا يتعامل مع احداث الواقع وصراعاته من خلال نزعات مذهبية او طائفية او حزبية، او اقليمية ضيقة، بل ينظر اليها بحجم طموحات رسالة محمد (صلّى الله عليه وسلّم) الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى سعة العالم الاسلامي وعلى امتداد صرخات المستضعفين في الأرض.. وهو الجيل المنقذ للامة، من كل ما تعانيه من خطوب ومأسٍ، لأنه مصدر عطاء وكرامات وفيوضات للإنسانية كلها. وهذا الجيل هو القاعدة الموعودة المعنية في الحديث النبوي "سيكون في آخر هذه الامّة قوم لهم أجر مثل اجر أوّلهم، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقاتلون أهل الفتن"(2).
وتذكر الأخبار الغيبية أن الطليعة الأولى لهذه القاعدة الاجتماعية المجاهدة، ستطل على العالم الإسلامي من بلاد إيران، وهي المبشر بها في الحديث النبوي القائل: "يخرج قوم من المشرق، يوطّئون للمهديّ سلطانه"(3) وفي قوله (صلّى الله عليه وسلّم): "وإنّ لآل محمّد بالطالقان لكنزا، سيظهره الله إذا شاء، دعاة حقّ يقومون بإذن الله فيدعون إلى دين الله"(4) وهؤلاء هم طليعة حركة الانتظار التغييرية التي بشر بها الامام زين العابدين (عليه السلام)
وهذه القاعدة هي المعنية في حديث الإمام علي (عليه السلام): "المهديّ...
يكون مبدأه من قبل المشرق، واذا كان ذلك خرج السفياني"(5) لأن الإمام القائم لا يخرج من المشرق بل من مكة، ولا يظهر قبل السفياني، بل بعده بسنة ونصف، مما يؤكد ان هذا الحديث من البشائر الالهية، بولادة القاعدة الجهادية الموطئة للمهدي (عليه السلام) من المشرق.
ان ولادة الجيل الممهد لدولة بقية الله الأعظم، بحد ذاتها حدث عالمي كبير، يعبر عن يقظة الأمة الإسلامية ووثبتها من جديد، من أجل استعادة حريتها وكرامتها ومجدها ومكانتها ودورها الطليعي بين امم العالم.
ولأهمية هذا الحدث السياسي العالمي في تاريخ الامة، لم يتجاهله الوحي بل سجّله بكل وضوح في العديد من آياته المباركة، منها قوله تعالى: ﴿وإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾(6) وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللهِ اِثَّاقَلْتُمْ إِلَى اَلْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا مِنَ اَلْآخِرَةِ، فَمَا مَتَاعُ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ، إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً، ويَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ولاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً، واَللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(7) وقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا، مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اَللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكَافِرِينَ، يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللهِ ولاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، ذَلِكَ فَضْلُ اَللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ واَللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(8).
انها بشائر إلهية مشرقة بالأمل الوضّاح الكبير، بولادة الجيل المجاهد الطليعيّ، لقيادة حركة الانتظار التغييرية الممهدة للإمام المنتظر، انه الجيل البديل عن الأجيال السابقة التي تعودت حياة الذل والاستسلام لطواغيت الكفر وحكام الامة الخونة، انه الجيل الإسلامي الذي لا تأخذه في قتال اليهود والكافرين لومة لائم وهو الموعود لتغيير العالم كله.
وحينما كانت تنزل الآيات السابقة على رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، كان الصحابة ينظرون الى بعضهم متعجبين، وانطلق بعضهم يسألونه عن تفسيرها: "يا رسول الله! من هؤلاء الّذين ذكر الله أن تولّينا استبدلوا بنا، ثم لم يكونوا أمثالنا؟ فاجابهم- وكان سلمان بجنبه فضرب على فخذه-قائلا "هذا وأصحابه والّذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطا بالثّريّا لتناوله رجال من فارس"(9).
وهكذا تلتقي السنة النبوية مع النصوص القرآنية، في البشارة بولادة قاعدة الموطئين لدولة الإسلام العالمية، بدلاً من القاعدة المستبدلة المتخاذلة عن نصرة الإسلام وحماية الأمة من أعدائها.
وهكذا نتأكد أن بداية تاريخ عصر الظهور، يرتبط ارتباطاً وثيقاً باليوم الأول من تاريخ ولادة الجيل البديل، من قوم سلمان الموطئين للمهدي (عليه السلام) في آخر الزمان، ونزوله في ميدان الصراع السياسي والجهادي مع أعداء الأمة لنصرة الدين كما قال خاتم المرسلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "إذا وقعت الملاحم بعث الله بعثاً من الموالي هم أكرم [من] العرب فرساً وأجود سلاحاً يؤيّد الله بهم الدّين"(10).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البحار ٥٢/١٢٢.
(2) دلائل النبوة ٦/٥١٣.
(3) سنن ابن ماجة ٢/حديث ٤٠٨٨ مجمع الزوائد ٧/٣١٨.
(4) شرح نهج البلاغة ٧/٤٨.
(5) الغيبة للنعماني ٣٠٤/١٣.
(6) سورة محمد/٣٨.
(7) التوبة/٣٨-٣٩.
(8) المائدة/٥٤.
(9) صحيح الترمذي ٥/ح ٣٢٦١/مشكل الآثار ٣/حديث ٩٥٠٣١/مستدرك الصحيحين ٢/٤٥٨ وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي/الدر المنثور في تفسير سورة القتال.
(10) سنن ابن ماجة ٢/حديث ٤٠٩/مستدرك الصحيحين ٤/٥٤٨/كنز العمال ١١ حديث ٣١٧٦٦.
المصدر : رايات الهدى والضلال في عصر الظهور تأليف : مهدي الفتلاوي.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة