دراسة معمّقة في فلسفة الغيبة وأبعادها العقدية**
تُعدّ غَيبة الإمام المهديّ (عليه السلام) من أعظم القضايا العقائدية في مدرسة أهل البيت (ع)، وقد امتدّت لأكثر من ألف عام، الأمر الذي دفع الباحثين والمتكلمين إلى دراسة فلسفتها وأبعادها، والبحث عن السرّ الكامن في هذا الامتداد الزمني الطويل.
واللافت أنّ الروايات الشريفة لم تُرجع الغيبة إلى سبب واحد فقط، بل قدّمت منظومة أسباب تتكامل فيما بينها، بعضها غيبيّ يرتبط بالتدبير الإلهي، وبعضها اجتماعي يرتبط بتهيئة الأمة.
في هذا المقال سنعرض أهم الأسباب المستخلصة من النصوص وكلمات العلماء، مع تحليل عقلي متين.
1. الغَيبة لحفظ الإمام من القتل وإفشال مخططات الظالمين
إنّ الإمام المهدي هو الخاتم في سلسلة الأئمة، وبه تُختَم الحجة على خلق الله، وهو القائد الموعود لإقامة دولة العدل الإلهي.
وقد اتّفقت الروايات على أنّه لو ظهر قبل الموعد المعلوم لتعرّض للاغتيال كما تعرّض آباؤه (ع) قبله.
يقول الإمام الصادق (ع): « (إنّ للقائم غيبة قبل ظهوره) ، فبادر زرارة قائلاً : لَم ؟ فقال (عليه السلام) : (يخاف القتل) .
ويقول الشيخ الطوسي : (( لا علة تمنع من ظهور المهدي إلاّ خوفه على نفسه من القتل ، لأنه لو كان غير ذلك لما ساغ له الإستتار )) (الغيبة : 199).
فمن الواضح أنّ بقاء آخر حجّة لله مستتراً ضرورة لبقاء مشروع السماء إلى حين ظهوره.
2. عدم وجود قاعدة بشرية صادقة تتحمّل مشروع الإمام
مشروع الإمام المهدي ليس مشروع دولة عادية، بل هو مشروع تغيير عالمي يصطدم بكل قوى الظلم والاستكبار.
لهذا يشير العلماء إلى أنّ الغيبة تمتدّ حتى تصل البشرية إلى مرحلة تتكوّن فيها:
✔️ نواة صلبة من المؤمنين
✔️ ووعي عالمي بضرورة العدالة
✔️ ونضج في الوعي البشري يستحق أن يُظهر الله فيه حجّته
رُوِيَ عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ أنه قَالَ :
دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ) 1 ، فَقُلْتُ لَهُ : وَ اللَّهِ مَا يَسَعُكَ الْقُعُودُ .
فَقَالَ : " وَ لِمَ يَا سَدِيرُ " .
قُلْتُ : لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وَ شِيعَتِكَ وَ أَنْصَارِكَ ، وَ اللَّهِ لَوْ كَانَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ وَ الْأَنْصَارِ وَ الْمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيهِ تَيْمٌ وَ لَا عَدِيٌّ .
فَقَالَ : " يَا سَدِيرُ ، وَ كَمْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا " ؟
قُلْتُ : مِائَةَ أَلْفٍ .
قَالَ : " مِائَةَ أَلْفٍ " !
قُلْتُ : نَعَمْ ، وَ مِائَتَيْ أَلْفٍ .
قَالَ : " مِائَتَيْ أَلْفٍ " !
قُلْتُ : نَعَمْ ، وَ نِصْفَ الدُّنْيَا .
قَالَ : فَسَكَتَ عَنِّي ، ثُمَّ قَالَ : " يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ " .
قُلْتُ : نَعَمْ .
فَأَمَرَ بِحِمَارٍ وَ بَغْلٍ أَنْ يُسْرَجَا ، فَبَادَرْتُ فَرَكِبْتُ الْحِمَارَ .
فَقَالَ : " يَا سَدِيرُ ، أَ تَرَى أَنْ تُؤْثِرَنِي بِالْحِمَارِ " .
قُلْتُ : الْبَغْلُ أَزْيَنُ وَ أَنْبَلُ .
قَالَ : " الْحِمَارُ أَرْفَقُ بِي " .
فَنَزَلْتُ فَرَكِبَ الْحِمَارَ ، وَ رَكِبْتُ الْبَغْلَ ، فَمَضَيْنَا فَحَانَتِ الصَّلَاةُ .
فَقَالَ : " يَا سَدِيرُ انْزِلْ بِنَا نُصَلِّ " .
ثُمَّ قَالَ : " هَذِهِ أَرْضٌ سَبِخَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا " .
فَسِرْنَا حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ ، وَ نَظَرَ إِلَى غُلَامٍ يَرْعَى جِدَاءً 2 .
فَقَالَ : " وَ اللَّهِ يَا سَدِيرُ لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِهِ الْجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي الْقُعُودُ " .
وَ نَزَلْنَا وَ صَلَّيْنَا ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَطَفْتُ عَلَى الْجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ " .
الكافي : 2 / 243
3. امتحان وتمحيص للأمة
إحدى فلسفات الغيبة الكبرى هي اختبار الإيمان الحقيقي، وفصل المدّعين عن المخلصين.
فالغيبة تمثّل اختبارًا لليقين والثبات:
هل يرتبط الناس بالإمام غيبًا كما يرتبطون به حضورًا؟
هل يسيرون على نهجه دون أن يروه؟
هل ينتصرون لقضيته دون مكاسب دنيوية؟
قال تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾.
ولهذا سُمّيت الغيبة في الروايات بـ الفتنة والتمحيص.
4. دور الغيبة في الحفاظ على نقاء العقيدة من الانحراف
لو كان الإمام ظاهرًا طوال هذه القرون لتعرّض إلى:
الاحتواء السياسي
التحريف
الاستغلال باسم الإمام
وفرض تأويلات منحرفة للدين
لكن الغيبة جعلت الارتباط بالإمام ارتباطًا بالمبدأ والقيمة، وليس بشخص يمكن تلقّي أوامره أو استغلاله سياسيًا.
كما أنّ الغيبة منعت انقسام الشيعة إلى مذاهب حول تفاصيل قيادته كما حدث مع أئمة سابقين.
5. الغيبة تمهّد لثورة عالمية شاملة
من الواضح في الروايات أنّ الظهور ليس حدثًا محليًا، بل تحوّل عالمي:
انهيار قوى عديدة
تغيّر في موازين العالم
استعداد فكري للتغيير
تطوّر وسائل الاتصال
بلوغ البشرية مرحلة تشعر فيها بالعجز عن إدارة الأرض بالأساليب المادية
هذه الظروف لم تكن موجودة في القرون السابقة، ولا حتى في العقود الماضية؛ لذلك طالت الغيبة حتى يقترب العالم من عتبة الانهيار الحضاري الذي يمهّد لحاكميّة الإمام.
6. السرّ الحقيقي في الغيبة أمر إلهي لا يُكشف إلا بعد الظهور
رغم كلّ ما تقدّم، صرّحت الروايات بأنّ العلّة الحقيقية للغيبة ستُكشف بعد ظهوره.
ورد عن عبداللّه بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام)يقول: «إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابدّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل. فقلت له: ولمَ جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم. قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدّمه من حجج اللّه تعالى ذكره، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسى (عليه السلام) إلاّ وقت افتراقهما. يابن الفضل إنّ هذا الأمر أمر من أمر اللّه وسرّ من سرّ اللّه وغيب من غيب اللّه، ومتى علمنا أنّه عزّ وجلّ حكيم صدّقنا بأنّ أفعاله كلّها حكمة وإن كان وجهها غير منكشف لنا».
بحار الأنوار ٥۲: ۹۱.
وهذا يكشف أنّ الغيبة ليست فقط تحليلًا اجتماعيًا أو سياسيًا، بل وراءها سرّ إلهي مرتبط بحكمة الله في إدارة الكون.
خلاصة مركّزة
الغَيبة الطويلة ليست فراغًا في تاريخ الأمة، بل هي:
1️⃣ حماية للإمام ليقوم بدوره النهائي.
2️⃣ تهيئة للأمة حتى تبلغ مرحلة الوعي والنضج.
3️⃣ امتحان وتمحيص للناس وتمييز الصادقين.
4️⃣ حماية للدين من التحريف والاحتواء السياسي.
5️⃣ تهيئة للشروط العالمية الكبرى لثورة العدل.
6️⃣ ووراءها سرّ إلهي لا يُكشف إلا عند الظهور.
وبهذا تظهر الغَيبة كمشروع إلهي متكامل، وليس مجرد غياب أو انقطاع.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة