لا شك أنّ غيبة إمام العصر والزمان صلوات الله عليه خسارةٌ كبيرةٌ للأُمّة وللعالم، وأنّ البشرية قد حرمت من قسم كبير من البركات المتوقّفة على حضوره، ولكن قسماً منها لا يتوقّف على ذلك، فإنه صلوات الله عليه كالشمس لا يمكن للغيبة أن تمنع تأثير أشعّتها في قلوب المؤمنين النقيّة، كما تنفذ أشعّة الشمس في باطن الأرض وتغذي الجواهر النفيسة وتنمّيها، ولا تستطيع الصخور ولا طبقات الأرض أن تمنع استفادتها من أشعّتها.
وكما أنّ الاستفادة من الألطاف الخاصّة الإلهية لها طريقان:
الأوّل: الجهاد في الله، بتصفية النفس من الكدورات المانعة من انعكاس نور عنايته.
والثاني: الاضطرار، فإنه يرفع الحجاب بين الفطرة ومبدأ الفيض (عزَّ وجلَّ) (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(1)، فكذلك الاستفادة من الإمام (عليه السلام) الذي هو الواسطة للفيض الإلهي تتيسّر بطريقين:
الأوّل: التزكية فكراً وخلقاً وعملاً (وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(2) (أما تعلم أنّ أمرنا هذا لا ينال إلاّ بالورع)(3).
الثاني: الاضطرار والانقطاع عن الأسباب المادّية.
وكم من المضطرّين الذين تقطّعت بهم السبل، توسّلوا إلى الله تعالى بغوث الورى واستغاثوا به، فاستجاب الله لهم.
ففي عصر الغيبة الذي هو أيام احتجاب تلك شمس المشرقة، فإنّ الاستفادة من حضرته نظير الاستضاءة من الشمس عندما تكون خلف السحاب.. فيلزم أن تستهل المجالس وتستفتح المحافل بزيارة «آل ياسين» المأمور بها من الناحية المقدسة: «إذا أردتم التوجه بنا إلى الله وإلينا، فقولوا كما قال الله تعالى: (سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ)»(4).
وأن يقرأ صبيحة آل يوم بعد صلاة الصبح «دعاء العهد» تجديداً للعهد والميثاق مع ولي الأمر (عجل الله فرجه الشريف)، إذ عدّ قارئه من أنصاره (سلام الله عليه وآله)، وإن مات قبله أخرجه الله تعالى من قبره، وهو دعاء منقول عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)(5) مشتمل على مضامين عالية.. لا يسعنا شرحها.
إذ في هذا الدعاء الشريف الاسم المبارك (الحي) و(القيوم).. ويعلم من قوله سبحانه وتعالى (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)(6) عظمة هذه الاسماء، وفي هذا الدعاء يسئل من الرب المتعال.
بالاسم الذي به يصلح الأولون والآخرون، وبالاسم الذي تتنوّر به السموات والأرض؛ (اللهُ نُورُ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ)(7).
هذا الدعاء يحوي مجموعة من أسماء ذاته سبحانه وتعالى وأسماء صفاته وأفعاله، والجزء الأعظم منه الاسم المقدس (الحي) المحي به القلوب، ويعلم من تفسير قوله عزّ اسمه: (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(8) ارتباط الولي الأعظم بهذا الاسم، وجملة: «.. وَأَحْي بِهِ عِبادَكَ» في هذا الدعاء مُبينة لهذا الربط.
وابتداء الدعاء يكون بـ: «.. اللهم رب نور العظيم»، ومن تفسير قوله عزّ من قائل: (وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ، بِنُورِ رَبِّهَا)(9) و(يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ)(10). يستفاد مدى ارتباط إمام العصر (عليه السلام) بهذا الاسم.
ويقرأ بعد آل فريضة «اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل الساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلا وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلا»(11) إذ به يهتدى المصلى للتوكل على من يكون الوجود منه، وللتوسل بمن يكون الوجود به «وبيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء» ولا شك أنّ السعادة الدنيوية والأُخروية تتأتى بهذين: (التوكل) و(التوسل).
ونعترف بعجزنا وقصورنا بل وتقصيرنا بالنسبة إلى ساحة قدس حضرته..
ذاك؛ من أتمّ الله به نوره، وبوجوده كلمته..
ذاك؛ من آمل الدين بإمامته، وبه كملت الإمامة..
قال الله سبحانه في كتابه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً)(12) وقد جمع وجود المهدي (عليه السلام) الشمس والقمر معاً.. وآم فرق بين شمس سماء الدنيا وقمرها.. وشمس سماء الملأ الأعلى وقمره..؟!
الفرق هو: إنّ الشمس والقمر ضياء ونور.. إلاّ أنّ مهدي الأُمة (عليه السلام) هو نور الله الساطع وضياءه المشرق وظهوره (عليه السلام) تأويل قوله عز من قائل: (وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا)(13).
فلو لم يسع البصر رؤية أشعة شمس السماء المنوّرة بأمره سبحانه.. كيف يمكن إدراك الإنسان حقيقة أشعة وجود نُوّر بنوره سبحانه..؟!
نعم؛ إنّ القلم لأعجز من شرح قدرة السيف الالهي الذي هو مظهر القدرة الأبدية.. وإنّ اللسان لألكن عن بيان معرفة الإنسان المنور بالأنوار الإلهية الأبدية..
* فحري بكافة المؤمنين في: ليلة النصف من شعبان التي هي ثاني اثنين ليلة القدر، ومطلع صبح أمل الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين وجميع الشهداء والصديقين وعباد الله الصالحين.. في: الساعة الثامنة مساءً تبركاً باسم الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أن يرفعوا أكفهم بالدعاء مبتهلين إلى ربّ العالمين لظهور قطب عالم الإمكان ولي العصر والزمان الذي هو مظهر الأسماء الحسنى للحق المتعال وأن يستغيثوا بذلك الوجود صارخين يا صاحب الزمان ليجددوا العهد مع مولاهم وصاحبهم، إذ بإجماع الأُمة في الطلب من المقام الربوبي والاستغاثة بولي الله، ترفع أكف طاهرة من الخيانة والجناية، وألسن مزينة بالذكر والصدق.. ولا يليق بأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أن يبعّض في فيضه وعطاءه، بقبول جمع وطرد آخرين عن خوان كرمه وجوده.. كما لا ينبغي مثل ذلك ممن كان وارث مكارم خاتم النبيين ورحمة للعالمين.
إنّ انتخاب ليلة النصف من شعبان لمثل هذه الاستغاثة من مقام الباري المتعال، والتوسل بولي العصر وصاحب الزمان وشريك القرآن.. قد استلهم من هذا الدعاء العظيم ذي المضامين العالية الذي نقله شيخ الطائفة (قدس سره) [في تلك الليلة المباركة]:
اَللّهُمَّ بِحَقِّ لَيْلَتِنا هذِهِ وَمَوْلُودِها وَحُجَّتِكَ وَمَوْعُودِهَا الَّتي قَرَنْتَ اِلى فَضْلِها فَضْلاً فَتَمَّتْ آَلِمَتُكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِكَ وَلا مُعَقِّبَ لآياتِكَ نُورُكَ الْمُتَاَ لِّقُ وَضِياؤُكَ الْمُشْرِقُ وَالْعَلَمُ النُّورُ في طَخْياءِ الدَّيْجُورِ الْغائِبُ الْمَسْتُورُ جَلَّ مَوْلِدُهُ وَكَرُمَ مَحْتِدُهُ وَالْمَلائِكَةُ شُهَّدُهُ وَاللهُ ناصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ اِذا آنَ ميعادُهُ وَالْمَلائِكَةُ اَمْدادُهُ سَيْفُ اللهِ الَّذى لا يَنْبوُ وَنُورُهُ الَّذى لا يَخْبوُ وذوُ الْحِلْمِ الَّذى لا يَصْبوُا مَدارُ الَّدهْرِ وَنَواميسُ الْعَصْرِ وَوُلاةُ الأمْرِ وَالْمُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ ما يَتَنَزَّلُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَاَصْحابُ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ تَراجِمَةُ وَحْيِهِ وَوُلاةُ اَمْرِهِ وَنَهْيِهِ اَللّهُمَّ فَصَلِّ عَلى خاتِمِهْم وَقائِمِهِمُ الْمَسْتُورِ عَنْ عَوالِمِهِمْ اَللّهُمَّ وَاَدْرِكَ بِنا أَيّامَهُ وَظُهُورَهُ وَقِيامَهُ وَاجْعَلْنا مِنْ اَنْصارِهِ وَاقْرِنْ ثارَنا بِثارِهِ وَاكْتُبْنا في اَعْوانِهِ وَخُلَصائِهِ وَاَحْيِنا في دَوْلَتِهِ ناعِمينَ وَبِصُحْبَتِهِ غانِمينَ وَبِحَقِّهِ قائِمينَ وَمِنَ السُّوءِ سالِمينَ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمينَ وَصَلَواتُهُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّد خاتَمِ النَّبِيّينَ وَالْمُرْسَلينَ وَعَلى اَهْلِ بَيْتِهِ الصّادِقينَ وَعِتْرَتِهَ النّاطِقينَ وَالْعَنْ جَميعَ الظّالِمينَ واحْكُمْ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ يا اَحْكَمَ الْحاكمينَ(14).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل: ٦٢.
(2) سورة العنكبوت: ٦٩.
(3) بصائر الدرجات: الجزء الخامس ٢٦٣، باب ١١ ح ٢، دلائل الإمامة ص ٢٥٤، الخرائج والجرائح ج ٢ ص ٢٧٨.
(4) الاحتجاج، ص ٢، ص ٣١٥.
(5) مزار [بن] المشهدي: ٦٦٦.
(6) سورة طه: ١١١.
(7) سورة النور: ٣٥.
(8) سورة الحديد: ١٧.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة