إنَّ أساليب المشاهدة للإمام (عجَّل الله فرجه) قد تعدَّدت حسبما يقتضيه حال المشاهِد والظروف المحيطة لذلك، وبإمكاننا أنْ نقف على ذلك بالروايات التالية:
أوَّلاً: أُسلوب المراسلات:
كان أحد أساليب معرفة ولادة الموعود إبَّان فترة ولادته بطُرُق المراسلة التي اعتمدها الإمام العسكري (عليه السلام) مع أصحابه، كما في رواية أحمد بن الحسن بن أحمد بن إسحاق القمِّي، قال: لمَّا وُلِدَ الخلف الصالح (عليه السلام) ورد من مولانا أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) إلى جدِّي أحمد بن إسحاق كتاب، وإذا فيه مكتوب بخطِّ يده (عليه السلام) الذي كان ترد به التوقيعات عليه، وفيه:
«وُلِدَ لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنَّا لم نُظهر عليه إلَّا الأقرب لقرابته والوليَّ لولايته، أحببنا إعلامك ليسرَّك الله به مثل ما سرَّنا به، والسلام»(1).
ثانياً: أُسلوب المشاهدة المباشرة عن طريق الإمام العسكري (عليه السلام):
فقد عمد الإمام العسكري (عليه السلام) إلى تعريف الوليد إلى خاصَّة أصحابه ووصيَّتهم به:
١ - روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) ومعاوية بن حكيم ومحمّد بن أيُّوب بن نوح، قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) ونحن في منزله وكنَّا أربعين رجلاً، فقال: «هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أمَا إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا»، قالوا: فخرجنا من عنده، فما مضت إلَّا أيَّامٌ قلائل حتَّى مضى أبو محمّد (عليه السلام)(2).
٢ - وروى الشيخ المفيد (رحمه الله) بسنده عن محمّد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر - وكان أسنّ شيخ من وُلِدَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالعراق -، قال: رأيت ابن الحسن بن عليِّ بن محمّد (عليهم السلام) بين المسجدين وهو غلام(3).
٣ - وروى (رحمه الله) عن عمرو الأهوازي، قال: أرانيه أبو محمّد وقال: «هذا صاحبكم»(4).
٤ - وروى القندوزي الشافعي في (ينابيع المودَّة) عن الخادم الفارسي، قال: كنت بباب الدار خرجت جارية من البيت ومعها شيء مغطَّى، فقال لها أبو محمّد: «اكشفي عمَّا معكِ»، فكشفت فإذا غلام أبيض حسن الوجه، فقال: «هذا إمامكم من بعدي»، قال: فما رأيته بعد ذلك(5).
٥ - وروى الطوسي (رحمه الله) في غيبته بسنده عن أبي سليمان داود بن غسَّان البحراني، قال: قرأت على أبي سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي، قال: مولد محمّد بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليٍّ الرضا بن موسى ابن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم أجمعين)، وُلِدَ (عليه السلام) بسامرَّاء سنة ستٍّ وخمسين ومائتين، أُمُّه صقيل، ويُكنَّى أبو القاسم، بهذه الكنية أوصى النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي»، لقبه المهدي، وهو الحجَّة، وهو المنتظر، وهو صاحب الزمان (عليه السلام).
قال إسماعيل بن عليٍّ: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) في المرضة التي مات فيها وأنا عنده إذ قال لخادمه عقيد، وكان الخادم أسود نوبيًّا قد خدم من قبله عليَّ بن محمّد، وهو ربَّى الحسن (عليه السلام)(6)، فقال له: «يا عقيد، اغل لي ماءً بمصطكي»، فأغلى له، ثمّ جاءت به صقيل الجارية أُمُّ الخلف (عليه السلام).
فلمَّا صار القدح في يديه وهمَّ بشربه فجعلت يده ترتعد حتَّى ضرب القدح ثنايا الحسن (عليه السلام)، فتركه من يده، وقال لعقيد: «ادخل البيت فإنَّك ترى صبيًّا ساجداً فأتني به».
قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرَّى فإذا أنا بصبيٍّ ساجد رافع سبَّابته نحو السماء، فسلَّمت عليه، فأوجز في صلاته، فقلت: إنَّ سيِّدي يأمرك بالخروج إليه، إذا جاءت أُمُّه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن (عليه السلام).
قال أبو سهل: فلمَّا مثل الصبيُّ بين يديه سلَّم وإذا هو دُرِّي اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلمَّا رآه الحسن (عليه السلام) بكى وقال: «يا سيِّد أهل بيته، اسقني الماء، فإنِّي ذاهب إلى ربِّي»، وأخذ الصبيُّ القدح المغلي بالمصطكي بيده ثمّ حرَّك شفتيه ثمّ سقاه، فلمَّا شربه قال: «هيِّئوني للصلاة»، فطرح في حجره منديل فوضَّأه الصبيُّ واحدة واحدة ومسح على رأسه وقدميه.
فقال له أبو محمّد (عليه السلام): «ابشر يا بنيَّ فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجَّة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيِّي وأنا ولدتك، وأنت محمّد بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام). ولدك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنت خاتم [الأوصياء] الأئمَّة الطاهرين، وبشَّر بك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسمَّاك وكنَّاك، بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين صلَّى الله على أهل البيت ربُّنا إنَّه حميد مجيد»، ومات الحسن ابن عليٍّ من وقته (صلوات الله عليهم أجمعين)(7).
٦ - عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وأنا أُريد أنْ أسأله عن الخلف [من] بعده، فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام)، ولا يخليها إلى أنْ تقوم الساعة من حجَّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزِّل الغيث، وبه يُخرج بركات الأرض»، قال: فقلت له: يا بن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: «يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حُجَجه ما عرضت عليك ابني هذا، إنَّه سميُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكنيُّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً. يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأُمَّة مثل الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنَّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلَّا من ثبَّته الله (عزَّ وجلَّ) على القول بإمامته ووفَّقه [فيها] للدعاء بتعجيل فرجه».
فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي، فهل من علامة يطمئنُّ إليها قلبي؟ فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح فقال: «أنا بقيَّة الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد ابن إسحاق».
فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلمَّا كان من الغد عدت إليه، فقلت له: يا بن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت [به] عليَّ، فما السُّنَّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟ فقال: «طول الغيبة يا أحمد»، قلت : يا بن رسول الله، وإنَّ غيبته لتطول؟ قال: «إي وربِّي حتَّى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، ولا يبقى إلَّا من أخذ الله (عزَّ وجلَّ) عهده لولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه. يا أحمد بن إسحاق، هذا أمر من أمر الله، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في عليِّين»(8).
٧ - عن يعقوب بن منقوش، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ (عليهما السلام) وهو جالس على دكَّان(9) في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت له: [يا] سيِّدي، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: «ارفع الستر»، فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك(10)، واضح الجبين، أبيض الوجه، دُرِّي المقلتين، شثن الكفَّين، معطوف الركبتين، في خدِّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمّد (عليه السلام)، ثمّ قال لي: «هذا صاحبكم»، ثمّ وثب فقال له: «يا بنيَّ، ادخل إلى الوقت المعلوم»، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: «يا يعقوب، انظر من في البيت»، فدخلت فما رأيت أحداً(11).
مشاهدة الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه) عند شهادة والده (عليه السلام):
كانت مشاهدة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وقت شهادة والده (عليه السلام) أمراً حاسماً، ففي فترةٍ تُعَدُّ أحرج الفترات التي تمرُّ بها مسألة الإمامة، وعدم وضوح الخلف من بعد الإمام عند الكثير من الشيعة، كما أنَّ جعفراً قد تهيَّأ لدعوى الإمامة بواسطة السلطة العبَّاسيَّة التي تُعَدُّ من جعفر بديلاً (رسميًّا) عن الإمام، وقد حاولت السلطة أنْ تستفيد من هذه الفترة أمرين:
أُولاهما: كشف حال الإمام الغائب عند شهادة والده (عليه السلام)، فإنْ كان موجوداً نفَّذت السلطة خطَّتها في تصفيته، وإنْ كان غير موجود فهو ما تطمح إليه السلطة وتحاول إشاعته ذلك وإنهاء (ملف) الإمامة من الأساس، فلا أحدٌ بعد ذلك يُشكِّل تهديداً خطيراً حقيقيًّا لها، وبذلك تُحقِّق السلطة العبَّاسيَّة آمالها في إقصاء آل البيت (عليهم السلام) من مناصبهم الإلهيَّة.
ثانيهما: تنصيب جعفر بن عليٍّ عمِّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إماماً (رسميًّا) من قِبَل السلطة، وذلك لمحاولة استغلال ظرف غياب الإمام الشرعي وتوجيه الأنظار إلى جعفر الذي عُرِفَ بعدم التزامه وارتكابه محرَّمات الشريعة، لتوهم الناس بأنَّ أئمَّة آل البيت (عليهم السلام) الذين تعتقدون إمامتهم هم في مستوى عدم الالتزام الشرعي وغياب مقوِّمات الإمامة عنهم وعدم أهليَّتهم لذلك، لذا فقد كان جعفراً يُشكِّل بادرة خطيرة إبَّان الغيبة الصغرى، وهو أحد أهمّ عوائق ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في غيبته الصغرى لشيعته، كون جعفراً يترصَّد وجوده ويحاول تمويه الناس بعدم ولادته، ومن ثَمَّ دعوى إمامته الباطلة.
هاتان المحاولتان لم تنجح في استغلالهما السلطة، فإنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ظهر بصورة مفاجئة في اللحظات الأخيرة التي تمَّت بها محاولة النظام في التمويه على عدم وجوده، فقد باغت الإمام (عجَّل الله فرجه) السلطة بظهوره والصلاة على أبيه، وأحبط محاولاتها ومحاولات عمِّه جعفر وأسقط ما في أيدي جعفر من الدعاوى الكاذبة وأثبت لشيعته وجوده ومحاولة أخذ زمام المبادرة في اللحظات الأخيرة من مشاهد (السيناريو) الذي حاول إيجاده النظام بواسطة جعفر.
وبهذا فقد أثبت الإمام وجوده لشيعته أوَّلاً وللسلطة ولعمِّه ثانياً دون أدنى خطر على حياته، حيث بعد أدائه الصلاة غاب بشكل أفشل محاولات القبض عليه وتصفيته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كمال الدِّين (ص ٤٣٣ و٤٣٤/ باب ٤٢/ ح ١٦).
(2) كمال الدِّين (ص ٤٣٥/ باب ٤٣/ ح ٢)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) بتفاوت في الغيبة (ص ٣٥٧/ ح ٣١٩).
(3) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥١)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ١/ ص ٣٣٠/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح ٢)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٢٦٨/ ح ٢٣٠)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢١٨)، والإربلي (رحمه الله) في كشف الغمَّة (ج ٣/ ص ٢٤٧).
(4) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٣ و٣٥٤)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ١/ ص ٣٣٢/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح ١٢).
(5) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٣٢٤/ ح ٥)؛ ورواه بتفصيل أكثر الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج ١/ ص ٣٢٩/ باب الإشارة والنصِّ إلى صاحب الدار/ ح ٦)، والصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٤٣٥ و٤٣٦/ باب ٤٣/ ح ٤)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص ٢٣٣ و٢٣٤/ ح ٢٠٢).
(6) أي قام على شؤونه وتكفَّل خدمته، وليس من المقصود ربَّاه بمعنى التزم تربيته ونشأته، فإنَّ الإمام يختصُّ بأمره إمام مثله، وعلمه اللدنِّي الغيبي يغنيه عن أيِّ عمل آخر، فلاحظ.
(7) الغيبة للطوسي (ص ٢٧١ - ٢٧٣/ ح ٢٣٧).
(8) كمال الدِّين (ص ٣٨٤ و٣٨٥/ باب ٣٨/ ح ١)؛ ورواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٤٨ و٢٤٩)، والإربلي (رحمه الله) في كشف الغمَّة (ج ٣/ ص ٣٣٣ و٣٣٤).
(9) الدكَّان: الدكَّة، وهو المرتفع من الأرض تُصنَع من البناء للجلوس عليها.
(10) الخماسي من هو في سنِّ الخامسة، ثمّ قوله: له عشر أو ثمان، أي من العمر، والظاهر أنَّ الراوي أراد القول: إنَّ عمره خمس سنوات إلَّا أنَّ له هيأة سنِّ العاشرة أو الثمان سنوات في هيأته (عجَّل الله فرجه).
(11) كمال الدِّين (ص ٤٠٧/ باب ٣٨/ ح ٢)؛ ورواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٥٠)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج ٢/ ص ٩٥٨ و٩٥٩).
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة