غيبة المهدي وغيبة الأنبياء

, منذ 2 سنة 2K مشاهدة

السيد عبد الهادي العلوي

لقد دلّت الأدلّة المعتبرة على أنّ الغيبة تعدّ ظاهرة في حياة الحجج الإلهيين (عليهم السلام)، قصرت المدّة أو طالت، فهي ليست ممكنة فحسب، بل وواقعة أيضاً، ويتضح ذلك ببيان نقاط:

النقطة الأولى: هل الغيبة وطول العمر ممكنان؟

يقع الكلام في هذه النقطة حول إمكانية الغيبة وطول العمر:

الأمر الأول: الاختفاء الحسيّ، وهو قسمان.. تارة يكون باختفاء الهوية والعنوان، وهذا لا يمكن تصوّر عدم إمكانه، وإنّما هو طبيعة كلّ مجهول، وهو ما عليه كلّ التخفي البشريّ بل والحيوانيّ أيضاً من تغيير اللون والصورة والشكل وإيهام الحسّ بأنّ هذا الشيء هو غيره تماماً، فهذا القسم من الاختفاء واقع نعايشه في كلّ مجالات الحياة، فضلاً عن أن يكون ممكناً.

وتارة أخرى يكون باختفاء الشخص والجسد، ولا يخفى أن الله تعالى قادر على إخفاء شخص معيّن؛ إذ أنّه خالق الأجسام وخصائصها، وله أن يتصرّف بها كيفما يشاء؛ فنار النمرود كانت مقتضية للإحراق لكنّها لم تحرق إبراهيم (عليه السلام) بل كانت عليه برداً وسلاماً، كما أنّ قوانين الفيزياء لم تقبل أن ينشق البحر لبني إسرائيل ليعبروا فيه لكن حدث ذلك بمشيئة الله تعالى.. ثمّ إنّ اختفاء بعض الأشخاص أمر واقع، وأوضح دليل على ذلك: الاختفاء البصريّ لخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) في ساعة هجرته؛ إذ أنّه مرّ من أمام المشركين ولم يبصروا به، فالمسألة ممكنة عقلاً، وواقعة فعلاً، وهناك أمثلة كثيرة لذلك، وللعلماء دراسات كثيرة حول ظاهرة التخفّي والإخفاء وتفسيرها، والطائرات التي لا يكتشفها الرادار ليست إلّا نماذج تطبيقيّة لتلك الدراسات.

إذن: ثبت أنّ الاختفاء الحسيّ قسمان: اختفاء الهوية والعنوان، واختفاء الشخص والجسد، وكلاهما ممكنان وواقعان أيضاً.. وبهذا يظهر: أنّه لا يمكن التشكيك في إمكان وقوع غيبة مولانا الحجّة المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)؛ إذ الغيبة بقسميها ممكن وواقع كما تقدّم، وغيبة مولانا الحجّة (سلام الله عليه) ليس إلّا تطبيقاً لتلك الكبرى.

الأمر الثاني: طول العمر، لا يخفى إمكان أن يعيش الإنسان لفترة طويلة تزيد على القرن والقرنين بل والعشرة قرون أيضاً، وأوضح شاهد على ذلك: أن النبي نوح (عليه السلام) عاش يدعو قومه 950 سنة، وعمره أكثر من ذلك ـ كما دلّت الأحاديث ـ، فالقرآن الكريم أشار بوضوح إلى إمكانية أن يعيش الإنسان مدة زمنية طويلة: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً}[العنكبوت: 14]، وقد ثبت أنّ النبي إدريس والنبي عيسى (عليهما السلام) رفعا، وهما حيّان إلى الآن، فعمرهما يزيد على العشرين قرناً، أضف إلى ذلك: الخضر (عليه السلام) فإنّه كان حياً في زمان النبي موسى (عليه السلام) إلى الآن فتجاوز عمره العشرين قرناً، وهذه حالات جاءت بنصوص قرآنية ونبوية ثابتة، لا يسع المسلم أن يشكّك فيها، وإلّا فعليه أن يشكّك بكل منظومته الإسلاميّة.

والملاحظ أنّ العلماء توصّلوا إلى أنّ المحيّر هو سرّ الموت لا سرّ الحياة؛ لأنّ الأصل في التكوين الداخليّ للجين الوراثيّ هو الحياة الكاملة وعدم الموت، ولكن المفاجئ هو إصدار أوامر برمجية من داخل الجين الوراثي لتخريب الجسد، وهذا ما لا يُفهم، فقد جعل الله فينا برنامج الموت، وإلّا فإنّ كلّ خلية لها قابلية عجيبة للتجدد والمحافظة على البقاء، فالنظام الأساسيّ هو بقاء الحياة، والموت هو المعجزة الإلهية التي لا يعرف مداها وكنهها، فما يحدث للمعمرين هو التفلت من سرّ الموت والبقاء على الطبيعة الأساسية.

وعلى هذا، لا مانع أن يتدخّل الله تعالى في شأن الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، فيمنع من طرو الموت عليه؛ إذ لا مانع عقلاً ولا واقعاً من إجراء تعديل بالتوقيت في الجين الوراثي ليكون أطول بكثير من المعروف والمعهود في البشر.

تحصّل ممّا تقدّم: أنّ دعوى رفض العقل لفكرة الغيبة وطول العمر، دعوى باطلة؛ إذ ثبت أنّ الغيبة بنوعيها ـ العنواني والشخصي ـ ممكن وواقع، كما ثبت أيضاً أن طول العمر ممكن وواقع أيضاً.. وحينئذٍ، لا مانع أصلاً في غيبة مولانا الحجّة (عجل الله فرجه) ولا في طول عمره، بل هما ممكنان ومقبولان بنظر العقل والعقلاء والشرع. ولمزيد من التفصيل يراجع كتاب (الحداثوية والقضية المهدوية).

النقطة الثانية: هل وقعت الغيبة؟

إنّ كلّ مَن يطّلع على تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) ويتأمّل في سيرتهم وحالاتهم بإنصاف، سيلاحظ وجود ظاهرة (الغيبة) و(الاختفاء) عن الأمّة المبعوث لها، فقد دلّت الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة والأخبار التاريخيّة على غيبة جملة من الأنبياء واختفائهم عن قومهم وتواريهم عن الناس..

فالنبيّ إدريس (عليه السلام) ـ مثلاً ـ يعدّ من أوائل الأنبياء الذين غابوا عن قومهم، وقد جاء في الذكر الكريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}[مريم: 56ـ66]، والرفع ليس بمعنى الموت ـ كما ذكر المفسّرون ـ، نظير حال النبي عيسى (عليه السلام) فإنّه غاب عن قومه برفعه للسماء، ويضاف لهذا: وجود غيبات أخرى للنبي عيسى (عليه السلام)؛ إذ كان يسيح في الأرض، فلا يعرف شيعته وقومه أخباره.

والنبي يونس (عليه السلام) غاب عن قومه إذ التقمه الحوت، فلبث في بطنه حيناً من الزمان غائباً عن قومه، يقول تعالى:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات: 143ـ144]، وهي إلفاتة لظاهرة غريبة؛ بأنّ النبي يونس (عليه السلام) كان يمكن أن يخلد في بطن النوح لولا كونه من المسبّحين، فأخرجه الله تعالى نتيجة تسبيحه، فالآية تثبت إمكانية البقاء حيّاً، وإمكانية الاختفاء، مع كونه نبيّاً مرسلاً.

هذه ثلاثة نماذج من الأنبياء الذين كانت لهم حالة غيبة واختفاء عن قومهم، وقد أورد الشيخ الصدوق في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) نماذج كثيرة من غيبات الأنبياء (عليهم السلام)، يمكن للباحثين مراجعتها والتأمّل فيها، وقد روى في [كمال الدين ص481] بإسناده عن سدير الصيرفيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « إنّ للقائم منّا غيبة يطول أمدها، فقلت له، يا ابن رسول الله، ولمَ ذلك؟ قال: لأنّ الله (عزّ وجلّ) أبى إلّا أن تجري فيه سنن الأنبياء (عليهم السلام) في غيباتهم، وإنّه لا بدّ له ـ يا سدير ـ من استيفاء مدد غيباتهم، قال الله تعالى: {لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي سنن من كان قبلكم »، وهي واضحة الدلالة على أنّ ظاهرة (الغيبة) تعدّ سنة إلهيّة أجراها الله تعالى في الأنبياء (عليهم السلام)، وقد شاء الله تبارك وتعالى أن تجري في وليّنا المؤمّل والعدل المنتظر (سلام الله عليه) سنن الأنبياء في غيباتهم.

إذن: غيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) ليست حالة طارئة وفريدة، بل الغيبة والاختفاء ظاهرة موجودة في الأنبياء (عليهم السلام)، وهي متجذرة في وجدان المؤمنين وأهل الأديان.

النقطة الثالثة: وقوع غيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه):

تبيّن ممّا تقدّم: أن الغيبة أمر ممكن الوقوع، غير مستبعد، ولا يتنافى مع العقل البشري وتجربته، كما أشارت إلى ذلك وقائع الغيبات الكثيرة للأنبياء، وما نريد ذكره في هذه النقطة: وجود الأدلة على وقوع غيبة إمامنا المهدي (سلام الله عليه)، وهي أحاديث كثيرة، نذكر بعضها:

1ـ روى الشيخ الصدوق في [كمال الدين ص257] بإسناده عن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « .. ألا وإنّ الله تبارك وتعالى جعلني وإيّاهم حججاً على عباده، وجعل من صلب الحسين أئمّة يقومون بأمري، ويحفظون وصيتي، التاسع منهم قائم أهل بيتي، ومهدي أمتي، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله، يظهر بعد غيبة طويلة وحيرة مضلّة، فيعلن أمر الله، ويظهر دين الله (عزّ وجلّ)، يُؤيّد بنصر الله ويُنصر بملائكة الله، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ».

2ـ روى الصدوق في [كمال الدين ص286] بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقاً و خلقاً، تكون له غيبة وحيرة تضلّ فيها الأمم، ثمّ يقبل كالشهاب الثاقب يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ».

3ـ روى الصدوق في [كمال الدين ص286] بإسناده عن أبي حمزة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): « طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو يأتمّ به في غيبته قبل قيامه، ويتولى أولياءه، يعادي أعداءه، ذلك من رفقائي وذوي مودتي وأكرم أمتي علي يوم القيامة ».

4ـ روى الشيخ النعمانيّ في [الغيبة ص176] بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: « للقائم غيبتان، إحداهما قصيرة، والأخرى طويلة.. ».

5ـ روى الشيخ النعمانيّ في [الغيبة ص176] بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: « إنّ لصاحب هذا الأمر غيبتين، إحداهما تطول حتّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قتل، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر يسير ».

وغير ذلك من الروايات الكثيرة جداً، وقد أورد جملة منها: الشيخ الصدوق في كمال الدين، والشيخ النعمانيّ في الغيبة، والشيخ الطوسي في الغيبة.

النقطة الرابعة: لزوم الإيمان بالغيب:

لا يخفى على كلّ مؤمن أنّ الإيمان بالغيب والغيبيّات من الأمور الواضحة التي لا يعتريها شكّ ولا شبهة؛ إذ أسس التديّن والإيمان وجذورها مبنيّة على فكرة الإيمان بالغيب، بدءاً من فكرة الإيمان بالله تبارك وتعالى وكمالاته، والإيمان بالملائكة والأنبياء والرسل والجنة والنار والصراط والميزان والحشر وغير ذلك، فإنّ سائر هذه الأمور من الأمور الغيبيّة عنا.

والإيمان بالإمام المهدي (عجل الله فرجه) وغيبته وغير ذلك ممّا نطقت بها الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة، لا تخرج عن سلك تلك الأمور الغائبة التي يلزم الإيمان بها، ولا يمكن التفكيك بينها؛ لأنّه كما يجب الإيمان بالنبي عيسى (عليه السلام) مثلاً كذلك يجب الإيمان بالإمام المهدي (عجل الله فرجه)، كلاهما كانا وغابا وسيظهران عندما يأذن الله تبارك وتعالى.

فالإيمان بالإمام المهدي (عجل الله فرجه) يعدّ من الإيمان بالغيب، ولا يمكن لمسلم أن ينكر الغيبيّات، فالأمر ليس منوطاً بما يراه أو لا يراه الإنسان حتّى يكون عدم الإيمان بما لا يُرى منجياً من العقاب الأخرويّ، وبهذا يظهر أنّ ما ورد في السؤال من أنّه (هل يصدر ذلك من الرحيم الرحمان ثم يعاقب الذين لا يؤمنون به لأنهم لم يروه..) إنكار للغيب؛ إذ لا يسع الإنسان أن لا يؤمن لأنّه لم يرَ، بل هو يحاسب على ذلك كما هو واضح.

ثمّ دعوى أنّه (ولم يرد لا في القرآن الكريم ولا في السنة ما يدل على غياب شخص معه القرآن وسنة النبي والدين كله) واضح الفساد؛ فقد تقدّمت الإشارة إلى غيبات الأنبياء (عليهم السلام)، فكيف يُدّعى عدم الورود؟!

وأمّا مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو عند الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، فهو ذلك المصحف الذي جمعه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ورتّب آياته وسوره وفق النزول، مع بيان تأويله وتفسيره الذي استقاه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وليس كما يتوهّم السائل.

وأمّا وجود السنّة الصحيحة عند الإمام (عجل الله فرجه) فهو ممّا لا شكّ فيه؛ إذ أنّه حامل علوم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيجب أن يكون لهذا الدين قيم وحامل لعلومه ومعارفه، والأمّة الإسلامية مختلفة الآراء بمذاهبها، بل علماء المذهب الواحد مختلفون في التفسير والعقيدة والفقه وغيره، ولا يمكن دعوى صوابية جميعهم، وسيخرج الإمام المهدي (عجل الله فرجه) لينشر المعارف الإلهيّة والسنة الصحيحة ويرفع الاختلاف الحاصل بين الأمة ويوحّد كلمتهم تحت رايته ودولته الكريمة.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أعوانه وأنصاره ومن الذابين عنه والمستشهدين بين يديه.

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.0534 Seconds