الهدف من غيبة الإمام المهدي (عج) هو تمحيص المؤمنين

, منذ 3 شهر 268 مشاهدة

قدَّرت الإرادة الإلهية خلقة الإنسان في هذه النشأة لهدف منشود يرجع إلىٰ الإنسان لا إلىٰ خالقه، وقد اختلف بيان الأدلَّة الشرعية لهذا الهدف فمرَّةً يقال: خُلِقَ ليتكامل وأُخرىٰ يقال: خُلِقَ ليعرف ربّه وثالثة: خُلِقَ للابتلاء والكلّ صحيح. أمَّا الابتلاء فلأنَّه طريق للتكامل ولولا الابتلاء المستلزم لجزاء ملائم أو غير ملائم أي بنحو المثوبة أو العقوبة فإنَّ الناس لا تسلك طريق التكامل، فتصبح الحياة بلا فائدة من هذه الناحية، ومن هنا كانت الحياة الدنيا من دون دار جزاء عبثية.

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون: ١١٥).

ومن هنا كان الابتلاء شرطاً في التكامل، ولا يمكن أن يكون الابتلاء غاية لأنَّ الابتلاء بأيّ نحو من أنحائه لا يمكن إلَّا أن يكون أمراً مقدّمياً، وشأن الأُمور المقدّمية أن لا تُراد لذاتها فلا تصلح للتعليل أو لتكون غايات، وإنَّما عبَّرت بعض الآيات عن الغاية من الخلقة به باعتباره سبباً للوصول إلىٰ الغاية المطلوبة.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: ٢).

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف: ٧).

إنَّ الدنيا ليست دار إقامة دائمة وليست مرادة لذاتها. فهي لا تمثِّل غاية وهدفاً بل مقدّمة اقتضت الحكمة الإلهية أن يُكلَّف الإنسان فيها بالاستكمال باختياره من خلال سلوك طريق الحقّ الذي تكفَّلت السماء ببيان معالمه التفصيلية، فصار بنحو من الوضوح بحيث يُشار إليه ويقال: هذا (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: ١٥٣).

ولا زالت الآيات والروايات تذكّرنا بفناء الدنيا بأجمعها وفناء أعمار الأفراد جميعاً.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران: ١٨٥).

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ...) (الشمس: ١ و٢).

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (الأنبياء: ١٠٤).

والوجهة التي تريد الشريعة لنا أن نتحرَّك نحوها هي الابتعاد عن جعل الدنيا هدفاً فالفاني لا يستحقُّ أن يُجعَل مقصداً.

وقد كان سبيل تكامل الإنسان متمثّلاً بالنجاح في الابتلاء الذي يعمُّ جميع مفردات الحياة، وكانت بعض مفردات الابتلاء شاقّة إلىٰ حدٍّ بعيد لم يصل إلىٰ حدّ التكليف بما يعجز المكلَّف عن القيام به، وأُسقطت الكثير من التكاليف التي فيها عسر شديد رحمة منه تعالىٰ لعباده.

وأمَّا التكامل فإنَّه لا يتنافىٰ مع ما ذُكِرَ من معرفة الله تعالىٰ، فإنَّ التكامل إنَّما يكون علىٰ طريق التوحيد ومعرفة الحقّ تبارك وتعالىٰ.

وكيف كان فالابتلاء لا بدَّ منه وإلَّا فقدت الحياة غايتها بالنسبة لواهبها وخالقها ويعمُّ الابتلاء جميع شؤون حياة المكلَّف ولا بدَّ أن تكون جميع أجزاء هذه الحياة منسجمة مع الهدف منها، نعم أنحاء الابتلاء مختلفة بما يراه المبتلي من المصلحة، فقد يكون بنحو يرىٰ الناس أنَّه خير، وقد يكون بنحو يرىٰ أنَّه شرّ.

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشر وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء: ٣٥).

وشدَّة الابتلاء ذات أثرين:

الأوّل: بيان واقع الاستحقاقات للأفراد إذ لا يكون التمايز واضحاً بين الأفراد إن لم يكن في الامتحان شيء من الصعوبة.

والثاني: ارتقاء مستوىٰ المبتلين إذا كان الابتلاء شديداً. ومن هنا كان نصيب الأولياء منه عظيماً، فهم أشدُّ بلاءً بعد الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل.

ومن هنا كان الابتلاء بمثابة التحفة التي يتحف الله تعالىٰ بها أحبّاءه وأوليائه، فهو يتعاهدهم بها مرَّةً بعد أُخرىٰ.

ومن أنواع الابتلاء الصعب الابتلاء بالشبهات الفكرية، فإنَّ الجانب العملي أسهل في الابتلاء من الجانب الفكري والنظري، وغيبة الإمام المهدي عليه السلام لهذه المدَّة الطويلة بحيث لم ترَ الأجيال المتعاقبة له عيناً بحسب العادة إلَّا ما شذَّ من حالات اللقاء به عليه السلام من النوادر تعتبر محلّ شبهة بل شبهات جعلت الكثير من أتباع المذاهب الأُخرىٰ يسخرون ممَّن يعتقد بحياته عليه السلام وغيبته عن الأنظار. وهذا ما يجعل المؤمنين به والمعتقدين بظهوره بعد أياس منه أشدُّ ثباتاً علىٰ دينهم ومعتقدهم، كما ينكشف به زيف دعاوىٰ من يدَّعون أنَّهم يعتقدون بوجوده عليه السلام حتَّىٰ إذا اشتدَّت عليهم الابتلاءات وتعلَّقت قلوبهم به عليه السلام لمدَّة منتظرين فرجه وتخليصهم من ذلك، ثمّ طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فنطقت ألسنتهم بما يكشف الفسق في قلوبهم.

(فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (الحديد: ١٦).

وهنا نادوا: (هلك، في أيّ وادٍ سلك؟)، كما تُصرح الروايات(1). ولا ينجو حينها إلَّا الذين سبقت لهم الحسنىٰ، وهم أُناس أحدهم في دينه أشدّ من زبر الحديد أو أكثر ثباتاً من الجبال الرواسي، وزبر الحديد تتغيَّر إذا أُحرقت بالنار والمؤمن الحقّ لا يتزحزح في إيمانه ولو قُطِّعَ وذري في البراري.

إذن فمن جوانب الحكمة في غيبته عليه السلام إحكام الابتلاء علىٰ الأُمَّة والقائلين بإمامته، نظراً لما يمثِّله ظهور الإمام عليه السلام بين الناس من حصن حصين وسدٍّ منيع من الزيغ والانحراف.

عن فرات بن أحنف، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السلام، قال: (زاد الفرات علىٰ عهد أمير المؤمنين عليه السلام فركب هو وابناه الحسن والحسين عليهما السلام فمرَّ بثقيف فقالوا: قد جاء عليٌّ يردّ الماء فقال علي عليه السلام: أَمَا والله لأُقتلنَّ أنا وابناي هذان ليبعثنَّ الله رجلاً من ولدي في آخر الزمان يطالب بدمائنا وليغيبنَّ تمييزاً لأهل الضلالة حتَّىٰ يقول الجاهل: ما لله في آل محمّد حاجة)(2).

وعن الحسن بن محبوب، عن أبي الحسن علي بن موسىٰ الرضا عليهما السلام، قال: (لا بدَّ من فتنة صمّاء صيلم يسقط فيها كلّ بطانة ووليجة وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي)(3).

وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، قال: (يا بني، إنَّه لا بدَّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتَّىٰ يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنَّما هو محنة من الله عز وجل امتحن بها خلقه، لو علم آباؤكم وأجدادكم ديناً أصحُّ من هذا لاتَّبعوه...)(4) الخبر.

والتمحيص من جهة الإذعان بقدرة الله تعالىٰ علىٰ حفظه عليه السلام كلّ هذه المدَّة ثمّ الإذعان بصدق إخبارات الأولياء عليهم السلام وكلَّما طالت المدَّة شقَّ علىٰ النفس البقاء علىٰ الاعتقاد بوجوده عليه السلام حتَّىٰ تقول الناس: هلك، في أيّ وادٍ سلك؟

وقد جاء في رواية أُخرىٰ عن سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال:

(... وأمَّا إبطاء نوح عليه السلام فإنَّه لمَّا استنزل العقوبة من السماء بعث الله إليه جبرئيل عليه السلام معه سبع نويات، فقال: يا نبيّ الله، إنَّ الله جلَّ اسمه يقول لك: إنَّ هؤلاء خلائقي وعبادي لست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلَّا بعد تأكيد الدعوة، وإلزام الحجَّة، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك فإنّي مثيبك عليه، واغرس هذا النوىٰ، فإنَّ لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص، وبشر بذلك من تبعك من المؤمنين. فلمَّا نبتت الأشجار وتأزَّرت وتسوَّقت وأغصنت وزها الثمر عليها بعد زمان طويل استنجز من الله العدة، فأمره الله تعالىٰ أن يغرس من نوىٰ تلك الأشجار، ويعاود الصبر والاجتهاد، ويُؤكِّد الحجَّة علىٰ قومه، فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به فارتدَّ منهم ثلاثمائة رجل، وقالوا: لو كان ما يدَّعيه نوح حقّاً لما وقع في عدته خلف.

ثمّ إنَّ الله تعالىٰ لم يزل يأمره عند إدراكها كلّ مرَّة أن يغرس تارةً بعد أُخرىٰ إلىٰ أن غرسها سبع مرَّات، وما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتدّ منهم طائفة بعد طائفة إلىٰ أن عادوا إلىٰ نيف وسبعين رجلاً، فأوحىٰ الله عز وجل عند ذلك إليه، وقال: الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك حين صرح الحقّ عن محضه، وصفا الأمر للإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة.

فلو أني أهلكت الكفّار وأبقيت من ارتدَّ من الطوائف التي كانت آمنت بك لما كنت صدقت وعدي السابق للمؤمنين الذين أخلصوا لي التوحيد من قومك واعتصموا بحبل نبوَّتك، بأن أستخلفهم في الأرض، وأُمكِّن لهم دينهم، وأُبدل خوفهم بالأمن، لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشكّ من قلوبهم.

وكيف يكون الاستخلاف والتمكين وبدل الخوف بالأمن منّي لهم، مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الذين ارتدّوا وخبث طينتهم، وسوء سرائرهم التي كانت نتائج النفاق وسنوخ الضلالة، فلو أنَّهم تنسَّموا من الملك الذي أُوتي المؤمنون وقت الاستخلاف إذا هلكت أعداؤهم لنشقوا روائح صفاته، ولاستحكم سرائر نفاقهم، وتأبَّد خبال ضلالة قلوبهم، ولكاشفوا إخوانهم بالعداوة، وحاربوهم علىٰ طلب الرئاسة، والتفرّد بالأمر والنهي عليهم، وكيف يكون التمكين في الدين وانتشار الأمر في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب؟ كلَّا فـ (اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) [هود: ٣٧]).

قال الصادق عليه السلام: (وكذلك القائم عليه السلام فإنَّه تمتدّ غيبته ليصرح الحقّ عن محضه، ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشىٰ عليهم النفاق إذا أحسّوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم عليه السلام...)(5).

وعن إبراهيم بن عمر اليماني، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه قال: (والله لتمخضنَّ يا معشر الشيعة شيعة آل محمّد كمخيض الكحل في العين، لأنَّ صاحب الكحل يعلم متىٰ يقع في العين ولا يعلم متىٰ يذهب، فيصبح أحدكم وهو يرىٰ أنَّه علىٰ شريعة من أمرنا فيُمسي وقد خرج منها ويُمسي وهو علىٰ شريعة من أمرنا فيصبح وقد خرج منها)(6).

وعن منصور، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: (يا منصور، إنَّ هذا الأمر لا يأتيكم إلَّا بعد أياس، ولا والله حتَّىٰ تميّزوا، ولا والله حتَّىٰ تمحّصوا، ولا والله حتَّىٰ يشقىٰ من يشقىٰ ويسعد من يسعد)(7).

وتكرَّر هذا المضمون في روايات أُخرىٰ.

وممَّا يزيد في شدَّة هذا الابتلاء أنَّه لم يوقَّت له وقت خاصّ، فإنَّه وكما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (مثله مثل الساعة (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف: ١٨٧])(8).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع: الكافي ١: ٣٢٣/ باب الإشارة والنصّ على أبي جعفر الثاني عليه السلام/ ح ١٤، و١: ٣٣٩ و٣٤٠/ باب في الغيبة/ ح ١١ و٢٠؛ الغيبة للنعماني: ١٥٨ و١٥٩/ باب ١٠/ فصل ١/ ح ١٨ - ٢٠؛ الإرشاد ٢: ٢٧٦.

(2) الغيبة للنعماني: ١٤٣/ باب ١٠/ ح ١.

(3) الإمامة والتبصرة: ١١٤/ ح ١٠٢.

(4) الكافي ١: ٣٣٦/ باب في الغيبة/ ح ٢.

(5) الغيبة للطوسي: ١٧٠ و١٧١/ ح ١٢٩.

(6) الغيبة للطوسي: ٣٣٩ و٣٤٠/ ح ٢٨٨.

(7) الكافي ١: ٣٧٠/ باب التمحيص والامتحان/ ح ٣.

(8) كمال الدين: ٣٧٣/ باب ٣٥/ ح ٦.

المصدر : علامات الظهور (قراءة في المعرفة والتطبيق) ـ تأليف: الشيخ كاظم القره غولّي.

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.1359 Seconds