كان الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يهدف في إيعازه لبناء السفارة في الغيبة الصغرى إلى ثلاثة أُمور:
الأمر الأوَّل: إثبات وجوده وحياته عن طريق سفرائه:
اعتمد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في عمله نظاماً هرمياً خاصّاً، أمكنه أنْ يرتبط من خلاله بقواعده الشعبيَّة وفئاته الموالية، فكان (عجَّل الله فرجه) يتصدَّى قمَّة هذا النظام ويمارس أعماله بسرّيَّة وحذر وكتمان شديد، ويصدر تعليماته وأوامره إلى سفرائه مباشرةً، وقد عدُّوا ركناً مهمّاً في هذا النظام، وكانوا بمثابة أعضاء الارتباط بينه وبين وكلائه المنتشرين في سائر البلاد الإسلاميّة، ولا نعرف مدى قوَّة هذا الارتباط لكونه محاطاً بالغموض، ومجهولاً تماماً لدى الجميع سوى السفير نفسه الذي كان يعرف قوَّة هذا الارتباط وضعفه.
لقد كان تاريخ السفراء حافلاً بالآلام والمتاعب حيث المطاردة الجادَّة من قِبَل السلطة وجواسيسها الذين بثَّتهم في كلِّ مكان لملاحقة فلول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وأتباعه، ومحاولتها القضاء على القيادة المشروعة وكلِّ من يرتبط بها بصلة، ويتجلَّى هذا تماماً في النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام) من حُرمة التصريح باسمه، أو الإعلان عن مكانه، فكانت مهمَّة السفراء اتِّخاذ أيدلوجيَّة مناسبة من الحذر والكتمان من جهة، وبذل أقصى الجهود لإقناع الرأي العامِّ - من خلال قيادتهم الأُمَّة - بوجود الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، وكونه مختفياً عن الأنظار، وإخراج التوقيعات والبيانات الصادرة منه (عجَّل الله فرجه) لتذليل العقوبات وحلِّ المشاكل الاجتماعيَّة والفكريَّة والسياسيَّة وغيرها من جهة أُخرى.
وقد أتاح منهج السرّيَّة والكتمان الفُرَص الكثيرة أمام السفراء من العمل الدقيق والمنظَّم تحت قيادته (عجَّل الله فرجه)، وهم يلحظون في هذه الأيدولوجيَّة عدَّة أُمور، هي:
الأوَّل: خوف السلطة من العلويِّين، وبذلها جهوداً مكثَّفة لاضطهاد كبار قادتهم، والحدِّ من نشاطهم، وقد ذكرهم أبو الفرج الأصفهاني في (مقاتله).
الثاني: زرع جوٍّ من القلق والرعب وبثِّ الإشاعات المغرضة والمسمومة من قِبَل السلطة، وما يترتَّب عليه من ردود سلبيَّة على الأُمَّة.
الثالث: المطاردة الجادَّة لفلول وقواعد الإمام (عجَّل الله فرجه)، وشنُّ حملات التفتيش المنتظمة وغير المنظَّمة لدار الإمام (عجَّل الله فرجه) من خلال التسعة عشر عاماً من خلافة المعتمد العبَّاسي والمعتضد.
الأمر الثاني: رعاية شؤون الأمَّة الإسلاميَّة:
إنَّ من أهمّ الوظائف الملقاة على عاتق السفراء وأخطرها هو رعاية شؤون الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال تلك الظروف والتعقيدات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة، مع اختفاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عن المسرح العامِّ وضرورة إقناعها بوجوده، وسيتَّضح ذلك جيِّداً في هذه الدراسة.
الأمر الثالث: تهيئة الأمَّة لاستيعاب مفهوم الغيبة الكبرى:
لقد كانت الأُمَّة الإسلاميَّة فترة الغيبة الصغرى بحاجة إلى شحذ للأذهان لتوعيتها مفهوم الغيبة الكبرى، وقد انصبَّت استراتيجيَّة الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) على ذلك، باتِّباعهما مسلك الاختفاء والاحتجاب عن الأُمَّة بلا مباغتة وسابق مقدَّمات، إذ لعلَّ الأُسلوب المفاجئ يُؤدِّي إلى مضاعفات غير محمودة تُؤدِّي بالمجتمع إلى إنكار وجود الإمام المهدي (عليه السلام) مطلقاً، وكان على الإمام المهدي أيضاً أنْ يضاعف في هذا المسلك ويتدرَّج في عمقه.
إنَّ المتتبِّع للنصوص والشواهد التاريخيَّة يرى بوضوح مدى التفاوت بين منهجيَّة الإمام العسكري (عليه السلام) وابنه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقد كان أصحاب الإمام العسكري أكثر بكثير من أصحاب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وكانوا يرونه أثناء زيارته للبلاط العبَّاسي، ويعرفون هيئة وقسمات وجهه، وكانت الأُمَّة الإسلاميَّة قد شاهدت موته، بعد أنْ ضمن المخطَّط الإلهي لغيبة ابنه (عجَّل الله فرجه)، بينما لم يكن يرى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سوى القليل من أصحابه، ثمّ تتابعت الأجيال الإسلاميَّة في غيبته، وهي لا تحمل أيَّ فكرةٍ عن شكله وهيأته سوى النصوص الواردة بشأنه، ولم يكن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مع ذلك مختفياً بشخصه، معزولاً عن الأُمَّة، بل كان يراهم ويرونه، ويعرفهم ولا يعرفونه، وإنَّ ما كان واقعاً خارجاً هو: الجهل بعنوانه كإمام مهدي! لا اختفاء جسمه كما تقول به بعض الأفكار غير المبرهنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : سفراء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بين الحقائق والأوهام.
تأليف: الشيخ ضياء الدِّين الخزرجي.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة