هناك شبهة طرحتها بعض الأقلام الإسلاميّة ومفادها أنَّ مهدي الشيعة يختلف عن مهدي أهل السُنّة والجماعة، فمن يراجع الروايات الشيعية يجد أنَّ المهدي إنسان دكتاتور، إنسان عدواني، مصدر للعنف والبطش والاستئصال لأمّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والصورة التي تصوّرها روايات الإماميّة عن المهدي تصوّر لنا دولة تقوم على السيف والبطش والاستئصال والعنف، وبالتالي فمعالم هذه الدولة التي ينتظرها الشيعة الإمامية هي:
أوّلاً: دولة تتنافى مع روح الإسلام لأنَّ روح الإسلام الرحمة، قال تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (الأنبياء: ١٠٧)، بينما دولة المهدي لدى الشيعة دولة تقوم على السيف والبطش والاستئصال فهي تتنافى مع روح الإسلام.
ثانياً: هل من المعقول أنَّ البشرية تنتظر آلاف السنين تلك الدولة الخاتمة بكلّ شوق ولهفة ثمّ تفاجئ بدولة تقوم على البطش والاستئصال والعدوان لا تبقي ولا تذر؟
فبالنتيجة لم يتحقَّق أمل البشرية وإنَّما تصاب بالخيبة وبالخذلان، هذا هو مهدي الشيعة إنسان عنيف عدواني، أمَّا مهدي أهل السُنّة والجماعة فهو مصدر الرحمة والعطف، وهذا الكاتب اعتمد على مجموعة من الروايات الموجودة فعلاً في كتب الشيعة، منها:
الرواية الأولى: من كتاب بحار الأنوار للشيخ المجلسي رحمه الله (ج ٥٢/ ص ٣٥٣/ ح ١٠٩) رواية زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قلت له: أيسير بسيرة محمّد؟ _ بمعنى أنَّ المهدي إذا خرج هل يسير على سيرة محمّد؟ _. قال: (هيهاتَ هيهاتَ يا زرارة، ما يسير بسيرته)، قلت: جُعلت فداك، لِمَ؟ قال: (إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سار في أمّته باللين(1) كان يتألَّف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذلك أمر في الكتاب الذي معه أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً، ويل لمن ناواه)(2).
الرواية الثانية: عن أبي خديجة أيضاً في بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٣٥٣/ ح ١١٠) عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: (إنَّ علياً عليه السلام قال: كان لي _ بمعنى من صلاحياتي _ أن أقتل المولّي وأجهز على الجريح، ولكن تركت ذلك للعاقبة من أصحابي إن جرحوا لم يقتلوا، والقائم له أن يقتل المولّي ويجهز على الجريح)(3).
الرواية الثالثة: عن العلا، عن محمّد، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: (لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج القائم لأحبَّ أكثرهم ألاَّ يروه، ممَّا يقتل من الناس، أمَا إنَّه لا يبدأ إلاَّ بقريش، فلا يأخذ منها إلاَّ السيف ولا يعطيها إلاَّ السيف، حتَّى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمّد، لو كان من آل محمّد لرحم)(٤).
الرواية الرابعة: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: (إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلاَّ السيف، ما يأخذ منها إلاَّ السيف، وما يستعجلون بخروج القائم؟ والله ما لباسه إلاَّ الغليظ، وما طعامه إلاَّ الجشب، وما هو إلاَّ السيف، والموت تحت ظلّ السيف)(5).
الراوية الخامسة: ذكرها النعماني في كتاب (الغيبة)(6) عن أبي الجارود، عن القاسم ابن الوليد الهمداني، عن الحارث الأعور الهمداني، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (بأبي ابن خيرة الإماء _ يقصد القائم _ يسومهم خسفاً، ويسقيهم بكأس مصبرة، ولا يعطيهم إلاَّ السيف هرجاً...).
ما هو موقفنا من هذه الروايات؟
أوّلاً: إنَّ جملة من هذه الروايات ضعيفة السند حيث ورد في طريقها محمّد بن علي الكوفي المكنّى بأبي سمينة، والشيخ النجاشي شيخ الرجاليين يقول: (وكان يلقَّب محمّد بن علي أبا سمينة، ضعيف جدَّاً، فاسد الاعتقاد، لا يعتمد في شيء. وكان ورد قم _ وقد اشتهر بالكذب بالكوفة _ ونزل على أحمد بن محمّد بن عيسى مدّة، ثمّ تشهَّر بالغلو، فجفي، وأخرجه أحمد بن محمّد بن عيسى عن قم)(7)، وأيضاً من طرقها محمّد بن علي الهمداني وهو مجهول(8)، ومن طرقها الحسن بن علي ابن أبي حمزة البطائني، وقد نصَّ علماء الرجال على ضعفه(9)، ومن طرقها الحسن بن هارون (بيّاع الأنماط) وهو مجهول(10)، ومن طرقها أبو الجارود وقد كان رأس الفرقة الجارودية التي انشقَّت عن الفرقة الزيدية وهو مضعَّف في بعض كتب علم الرجال(11)، إذن هذه الروايات مبتلاة بضعف السند لا ينبغي أن يعوَّل عليها وأن يستنتج منها مفهوم عن دولة القائم المنتظر عليه السلام.
ثانياً: هذه الروايات معارضة بروايات تظهر لنا روعة دولة القائم وأنَّها دولة الرحمة ودولة الحنان على الكلّ المطيع والعاصي، لاحظوا في كتاب (عقد الدرر) عن الإمام علي عليه السلام أنَّ المهدي يأخذ البيعة من أصحابه على أن لا يسبّوا مسلماً، ولا يقتلوا محرماً، ولا يهتكوا حريماً، ولا يهدموا منزلاً، ولا يضربوا أحداً إلاَّ بحقّه(12)، هذا نهج المهدي حتَّى مع أعدى أعداءه وهو السفياني.
ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: (يسير بهم _ أي المهدي _ في اثني عشر ألفاً إن قلّوا أو خمسة عشر ألفاً إن كثروا، شعارهم: أمت أمت حتَّى يلقاه السفياني فيقول: أخرجوا إليَّ ابن عمّي حتَّى أكلّمه، فيخرج إليه فيكلّمه فيسلّم له الأمر ويبايعه _ بمعنى أنَّ السفياني يتراجع عن منهجه _ فإذا رجع السفياني إلى أصحابه ندمه كلب فيرجع ليستقيله فيقيله، فيقتتل هو وجيش السفياني...)(13)، إذن الإمام يبدأ عدوّه بحوار ممَّا يدلّ على أنَّه شخصية حوارية منهجها الرحمة وليس منهجها العنف والقتال.
ويذكر في البحار عن الإمام الصادق عليه السلام: أنَّ المهدي يستدعي بين يديه كبار اليهود وأحبارهم ورؤساء دين النصارى وعلمائهم ويحضر التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فلا يقاتلهم أوّلاً، بل يبيّن لهم الحقائق، ويجادلهم على كلّ كتاب بمفرده، ويطلب منهم تأويله ويعرّفهم بما بدّل منه(14).
ثالثاً: إنَّ بعض الروايات الصحيحة في هذا المجال دلَّت على حدوث قتال شديد بين المهدي عليه السلام ومناوئيه ولكنَّها مطلقة من هذه الجهة، فمقتضى القاعدة تقييدها بما دلَّ على نوع التقاتل ومن هو المستهدف به والغرض منه، وهنا نلاحظ أنَّ النصوص الشريفة عيَّنت لنا من هو المستهدف بالقتال، وعيَّنت أنَّ قتاله عليه السلام قتال دفاعي وليس قتالاً هجومياً، فإنَّ الغرب بيهوده ومسيحييه سيؤمن وسيسلّم للمهدي ولن يقاتله، إنَّما الذي سيقاتل المهدي فئة من المسلمين وهي فئة النواصب، وإلاَّ فإنَّ أغلب أهل الأرض سيسلّمون له طوعاً لأنَّه سيظهر بمنطق العلم والمعرفة، وبمنطق الرأفة والحنان، وستقاتله فئة خاصّة من المسلمين ألا وهم النواصب، فعن الإمام الباقر عليه السلام:
(ويسير _ أي المهدي _ إلى الكوفة، فيخرج منها ستة عشر ألفاً من البترية، شاكين في السلاح، قرّاء القرآن، فقهاء في الدين، قد قرحوا جباههم، وشمَّروا ثيابهم، وعمَّهم النفاق، وكلّهم يقولون: يا بن فاطمة، ارجع لا حاجة لنا فيك)(15)، وفي بعض الروايات: (يقبل المهدي على الطائفة المنحرفة فيعظهم ويؤخّرهم إلى ثلاثة أيّام فلا يزدادون إلاَّ طغياناً وكفراً، فيأمر المهدي عليه السلام بقتلهم)(16).
مضافاً إلى أنَّ إقامة العدالة التامّة على الأرض كلّها لا يتمُّ إلاَّ باقتلاع براثن الظلم المتجذّرة في كثير من المجتمعات، وذلك يقتضي طولاً في مدّة القتال وشدّة وغلظة، إذ لا يتمُّ اقتلاع الجذور إلاَّ بهذا النهج، وقد قال تعالى عن عملية التطهير الجذري الذي قام به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (التوبة: ١٤)، وقال تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (التوبة: ٥)، وقال تعالى: (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: ٣٩)، وقال تعالى: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: ١٢٣)، فالمعالم البارزة للقتال المحمّدي هي المظاهر البارزة للقتال المهدوي.
ومن خلال هذه الملاحظات عرفنا أنَّ دولة المهدي دولة الرحمة والرأفة والحنان، وأنَّها لا تفرض الدين بالقسر والإكراه، وإنَّما ستنشر الدين بلغة العلم، وهذه سيرة آبائه وأجداده عليهم السلام، فقد كان رسول الله إنساناً حوارياً، بدأ بالحوار ولم يبدأ القتال، وعلي عليه السلام كان أيضاً إنساناً حوارياً بدأ بالحوار ولم يبدأ القتال، والحسين نفسه كان إنساناً حوارياً حاور المقاتلين ووعظهم إلى آخر لحظة من لحظات وجوده الشريف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وفي بعض نسخ كتاب الغيبة للنعماني: (بالمنّ).
(2) عن الغيبة للنعماني: ٢٣٦ و٢٣٧/ باب ١٣/ ح ١٤.
(3) عن الغيبة للنعماني: ٢٣٧/ باب ١٣/ ح ١٥.
(4) الغيبة للنعماني: ٢٣٨/ باب ١٣/ ح ١٨.
(5) الغيبة للنعماني: ٢٣٩/ باب ١٣/ ح ٢١.
(6) الغيبة للنعماني: ٢٣٤/ باب ١٣/ ح ١١.
(7) رجال النجاشي: ٣٣٢/ الرقم٨٩٤ .
(8) راجع: الفهرست/ الطوسي: ٣٣٧/ الرقم ٦١٨؛ رجال ابن داود: ٢٧٤/ الرقم ٤٦٨.
(9) راجع: رجال النجاشي: ٣٦/ الرقم ٧٣؛ اختيار معرفة الرجال ٢: ٨٢٧/ الرقم ١٠٤٢.
(10) راجع: مستدركات علم رجال الحديث للشيخ علي النمازي ٣: ٦٧/ الرقم ٤٠٦٩؛ الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق عليه السلام لعبد الحسين الشبستري ١: ٣٨٦/ الرقم ٧٧٨.
(11) راجع: رجال النجاشي: ١٧٠/ الرقم ٤٤٨؛ اختيار معرفة الرجال ٢: ٤٩٥ و٤٩٦/ الرقم ٤١٣ - ٤١٦.
(12) أنظر: معجم الإمام المهدي عليه السلام ٣: ٩٥/ ح ٦٣٩، عن عقد الدرر: ٩٠ - ٩٩.
(13) كتاب الفتن للمروزي: ٢١٧.
(14) راجع: بحار الأنوار ٥٣: ٩، عن مختصر بصائر الدرجات: ١٨٥.
(15) دلائل الإمامة: ٤٥٥ و٤٥٦/ ح (٤٣٥/٣٩).
(16) مختصر البصائر: ١٩٠.
السيد منير الخباز
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة