قد يقول أهل الخلاف: إنَّ بغيبة إمامكم المهدي الكبرى غاب النص الذي تتعبَّدون به أيها الشيعة.
وهو اعتراض مطروح قديماً وحديثاً.
وهذا الاعتراض لا قيمة علمية ولا شرعية له لأنَّه يحاول حصر النص بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في حين أنَّ أحاديث آبائه المعصومين (عليهم السلام) غطَّت كل مناحي الحياة إلّا من بعض الأمور التي تستجد في قابل الأيام والتي تركت لتحكيم الأصول العملية المعروفة كأصل البراءة والاستصحاب وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وغيرها، والأئمة المعصومون (عليهم السلام) لم يتركوا فراغاً كما عند المدارس الأخرى التي حاولت
ملأه بالقياس والاستحسان وسدِّ الذرائع وسُنَّة الصحابة وشرعة من قبلنا وهَلُمَّ جراً.
وحين تطالع الموسوعات عند الشيعة فإنَّك تجد أنّ غالبية الأحاديث المروية فيها كانت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) من بعده اعتباراً من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن الزكي العسكري (عليه السلام).
لقد أوكلت مهمَّة الفتيا والقيادة للأعلام من علماء الشيعة ذوي العلم والتقوى بإعلان الإمام (عجّل الله فرجه) المرسل إلى سفيره الأخير علي بن محمد السمري (رحمه الله) فتحوَّلت النيابة الخاصة إلى نيابة عامة.
ولم يقصِّر علماء الشيعة مذ ذاك الحين بواجبهم، فقد أمسكوا بدفَّة السفينة بقوة وسط لُجَج الفتن التي تعصف في كل عصر، فحافظوا عليهم حتّى يومنا هذا، وقد عرف عن الشيعة أنَّهم حزب المعارضة لكل أصناف الانحراف من الحكام والمحكومين، فاستحقوا الذم والقدح والمطاردة والتشريد والقتل ولم يتعرَّض غيرهم لعُشر ما تعرَّضوا له، وقد استوت سفينة التشيُّع على جودي الشعوب صامدة قوية، ولذا التفَّت أعداء التشيع لمعرفة سر هذه القوة، فشخَّصوها بوجود المرجعية، فبدأوا بشن حملات التشهير والتضعيف والتشكيك.
فلولا السيد السيستاني (دام ظلّه) وموقفه الحسيني العظيم لنجحت مخابرات الدول الصليبية المعادية بإشعال حرب إسلامية إسلامية، ولكان العراق والمنطقة كلها بمهب الريح وفتنة لا تبقي ولا تذر.
«فرحم الله من قال خيراً أو سكت».
لم يكن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بمعزل عن الأحداث خلال العصور
المتعاقبة، فله في كل عصر مجموعة من المريدين والأصحاب هم الأبدال الذين لا يقلّون عن ثلاثين(1)، وهؤلاء لهم مهام غيبية مكلَّفون بها من قبل إمامهم والمتعلقة بالبشر حتّى من غير المسلمين إذا اقتضت المصلحة ذلك، ولا يتحرَّكون إلّا بتخطيط محكم، فيحرِّكون بعض الأحداث من وراء الستار.
ما من أحد من البشر يعرفهم، فهم ليسوا من محبي الشهرة وزخارف الحياة ولا ممن يراؤون الناس ولا يكذبون في قول أو عمل وما عندهم خطل في قول أو عمل، ألسنتهم وقلوبهم واحدة، قد جعلوا الآخرة نصب أعينهم والدنيا تحت أقدامهم، فهم في الناس وليسوا مع الناس، ثيابهم بسيطة، مشيهم الهوينا، معيشتهم الاقتصاد، مخلصون في العبادة، مجتهدون في الطاعة، مجتنبون للمحرَّمات، معرضون عن السفاسف، مثل الغيب أمامهم كأنَّه شهادة، فكأنَّ الجنَّة أمامهم فهم لها مشتاقون، ومثلت النار لأعينهم فهم منها خائفون، صفرت وجوههم من العبادة، وذبلت أفواههم من الصيام، لا تحدهم الحدود ولا توقفهم السدود، مساكنهم أطراف المدن، تكفيهم خرائب المساكين لا زرائب المستكبرين، لا يحملون جوازات سفر فالأرض كلّها وطنهم.
هؤلاء أصحابه في غيبته فكيف بأصحابه في ظهوره؟
وكيف به هو بأبي وأمي؟
إنَّ أباه أمير المؤمنين (عليه السلام) يصفه بمعرض كلامه عن الحسين (عليه السلام):
«إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سيداً، وسيخرج الله من صلبه رجلاً باسم نبيكم يشبهه في الخلق والخلق... ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(2).
فمن كانت كل صفاته هذه فماذا يقال عنه؟
إنْ كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رحمةً للعالمين فهو أيضاً رحمةً للعالمين، لذا ادَّخره الله ليوم ينهي فيه ظلم الظالمين وسغب المظلومين وآهات المعذبين.
فهو الوارث لجميع الأنبياء والمرسلين بكل قداساتهم ومظلومياتهم.
وهو الطالب بدم المظلوم بكربلاء.
وهو المطبِّق لحكم الله الذي ركنه الظالمون من حكام السقيفة والشجرة الملعونة بني أمية وراية الضلالة بني العباس.
فالمهمة الملقاة على عاتقه ثقيلة جسيمة، لا تحتملها السماوات والأرض، ولا الملائكة المقرَّبون، ولا الأنبياء والمرسلون، مهمة مناوئة الذؤبان، وأولياء الشيطان، ومقارعة كل دجال، وقتل إبليس الملعون.
فهو القائم بدين الله، وهو القائم بثأر الله، وهو القائم بحكم الله، مَن مثل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينعته: «القائم من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي وشمائله شمائلي وسنته سنتي، يقيم الناس على ملَّتي وشريعتي، ويدعوهم إلى كتاب الله (عزَّ وجلَّ)، من أطاعه أطاعني، ومن عصاه عصاني ومن أنكره في غيبته فقد أنكرني ومن كذَّبه فقد كذَّبني ومن صدَّقه فقد صدَّقني، إلى الله أشكو المكذبين لي في أمره والجاحدين لقولي في شأنه والمضلّين لأُمَّتي عن طريقه، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٧]»(3).
فماذا يقول المتهوكون بهذا النص الصارخ؟
إنَّ المتمعِّن ذا البصيرة لَيقف خائفاً مرعوباً ممّا سيلقاه في حالة انحرافه عمّا أراده الله بشأن ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحبيب قلبه المهدي (عجّل الله فرجه)، فعصيان وتكذيب المهدي (عجّل الله فرجه) هو عصيان وتكذيب لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي مآله المُروق من الدين، وفي النص عبارة خطيرة جداً جداً وهي: «وسُنته سنَّتي».
وتعني أنَّ كل ما أوحى الله به لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو عند المهدي (عجّل الله فرجه) ولا يناقش اثنان أنَّ سُنَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي وحي آخر غير وحي القرآن، فكيف وصلت إليه؟ لقد وصلت إليه عن طريق آبائه المعصومين (عليهم السلام) ممّا يعني أنَّ الأئمة قبل المهدي (عليهم السلام) هم امتداد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو القول الفصل، لا يداهن، لا يخاتل، لا يحابي، لا يظلم، لا يميل مع الهوى.
«يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي»(4).
إنَّه الآية الكبرى، إنَّه المعجزة العظمى، إنَّه القرآن الناطق شقيق القرآن الصامت، من يترجم القرآن سواه، من يحمل سُنَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلّاه، باب مدينة علم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كأبيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو العالم بالتنزيل والتأويل، وهو الوارث للتوراة والزبور والإنجيل، وهو العالم ببني آدم وهم بأصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم في كل العصور والأزمنة.
ما نكون نحن، ما مدى علمنا، نحن جهلة جهلاً مطبقاً، ونحن كمن يريد وصف أعماق البحر وهو واقف على الساحل.
إنَّ ما قلناه وما نقوله هو منقول عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام).
فما يعرف أي أمرئٍ كُنههم إلّا هم أنفسهم.
(عليه جلابيب النور تتوقَّد من شعاع القدس)(5).
يقول أحد آبائه يصفه: «هو شاب مربوع، حسن الوجه، حسن الشعر، يسيل شعره على منكبيه ونور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، بأبي ابن خيرة الإماء»(6).
وحقيقةً أنَّ كل من التقى به انبهر وحار به، ووقف مذهولاً، بل مشلولاً فينعقد لسانه فلا يستطيع النطق بحضرته.
لندع أحد الذين التقوا به وجهاً لوجه ورأوه يصفه وهو العالم الكبير علي بن مهزيار الأهوازي: (فإذا أنا به جالس قد اتشح ببردة واتزر بأخرى، وقد كسر بردته على عاتقه، وهو كأقحوانة أرجوان قد تكاثف عليها الندى، وأصابها ألم الهوى، وإذا هو كغصن بان أو قضيب ريحان، سمح سخي تقي نقي، ليس بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللازق، بل مربوع القامة، مدور الهامة، صلت الجبين، أزج الحاجبين، أقنى الانف، سهل الخدين، على خده الأيمن خال كأنه فتات مسك على رضراضة عنبر)(7).
فهو الإنسان الكامل، بل هو الكمال البشري الذي لن تدركه العقول، وأنّى لها أن تدركه وقد وضعت حجباً سميكة من الذنوب، كمن يضع نظارة سوداء معتمة على عينيه ويحاول أن يرى ما حوله بألوانه الطبيعية.
إنَّ الله خاطب موسى بن عمران (عليه السلام) كليمه: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ (طه: ٣٩).
فموسى بن عمران (عليه السلام) صناعة ربّانية من نوع خاص، ولكن هذه الصناعة ليست منحصرة به وقد قيل: إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.
ومع ذلك فإنَّ موسى بن عمران (عليه السلام) نفسه كان تلميذاً للعبد الصالح الخضر، ولا ينفي ذلك أحدٌ من المسلمين، لأنَّ حادثته ذكرت في القرآن الكريم.
وحين نطالع أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام) نجد أنَّ الخضر (عليه السلام) نفسه أحد أعوان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الذين يأتمرون بأمره، أي أنّه تلميذ من تلامذة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، لقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معرض ردِّه على المتهوكين من أصحابه اللاهثين وراء اليهود وأساطيرهم: «والذي نفسي بيده لو نشر موسى بن عمران لما وسعه إلّا أن يتبعني».
أي إنَّه يجب أنْ يكون من أُمَّة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والمهدي (عجّل الله فرجه) ابن محمد وقائد أُمَّة محمد العظيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إنَّ خلافة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عالمية عامَّة تعم الأرض كلها فهو حاكمها وسيِّدها، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها والتي ستنعم بعدله ويتم فيها القضاء على الأصنام الحيَّة والميتة، بل إنَّ حاكمية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ستخرج من حاكمية الأرض إلى حاكمية الأرضين الأخرى، التي منها خمس معمورات وثنتان خرابان بل وأكثر من ذلك وأعظم فإنَّه سيحصل انفتاح ما بين عالم الغيب والشهادة فيتم التزاور بينهما.
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥ - ١٠٦).
لكن أتباع السقيفة ابتلوا بعمى الألوان وطمس البصائر، وقد تربُّوا على أيدي بني أُميَّة وبني العباس، فهم لا يطيقون سماع أي فضيلة لآل محمد (عليهم السلام)، حتّى لو كان فيها رفع شأن هذه الأُمَّة، على طريقة ابن الزبير: (أقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي)(8).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الكافي للكليني: ج١، ص٣٤٠، باب في الغيبة، ح١٦، عن أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: «لَابُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ ولَابُدَّ لَه فِي غَيْبَتِه مِنْ عُزْلَةٍ، ونِعْمَ المَنْزِلُ طَيْبَةُ، ومَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ».
(2) الغيبة للنعماني: ص٢٢٢ -٢٢٣، ب١٣، ح٢.
(3) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص٤١١، ب٣٩، ح٦.
(4) نهج البلاغة: ج٢، ص٢١.
(5) من حديث للإمام الرضا (عليه السلام) - مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي: ص٢١٤.
(6) الغيبة للشيخ الطوسي: ص٤٧١، ح٤٨٧، والحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
(7) الغيبة للطوسي: ٢٦٥، ح٢٢٨.
(8) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج٢، ص٣٤٤.
شروط النهضة المهدوية ـ تأليف : الأستاذ جابر الناصري.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة