كيف يتعامل الإمام المهدي (عج) مع أصحاب التخصصات العلمية ؟

, منذ 10 شهر 390 مشاهدة

من الملاحظ أنَّ ملامح ثورة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) هي العلم والعقل والعمران والحرّية وتكريم العلماء، وأنَّ نظامه (عليه السلام) قائم على الاعتراف بتخصّصات العلوم والتأكيد على ظاهرة التخصّصات وفسح المجال للمتخصّص لأن يدلو بدلوه بلا تصادم مع الشريعة، وكذلك الاعتراف وإعمال قانون الأسباب والمسبّبات، وإعمال لفقه التزاحم لا على أساس كُن فيكون، ولا على أساس إعمال الغيب المطلق، فالعموم القرآني محفوظ (لَيْسَ لِلإْنْسانِ إِلاَّ ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (النجم: ٣٩ و٤٠).

نعم التسديد الإلهي محقَّق عند تنجّز النواميس الاجتماعية والكونية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (محمّد: ٧)، ويقول سبحانه: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (الحجّ: ٤٠)، وقد تحدَّثت الروايات عن كمال العلوم كعلم الطبّ، وعلم الهندسة، وعلم الاتصالات فيكون العالم كالقرية الصغيرة جدَّاً، وعلم الشريعة والقانون والقضاء، وأمَّا ما ورد في بعض الكتب من محاربته (عليه السلام) للعلماء في عصره فهو ممَّا لا أساس له من الصحَّة، بل ذلك مصداق لقولهم: (رُبَّ شهرة لا أصل لها)، نعم قد ورد ذمّ واستئصال علماء سلطان الجور والزور.

كما أنَّ منطقه ليس منطق السيف والعنف، بل منطق العقل والحكمة والاستعانة بمختلف الأساليب المشروعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، ورفع الاستتار والغموض، ودفع الشبهات وحلّ العقد، وإقامة الحجج، كبعث المسيح، والإتيان بتابوت السكينة، وبعض مواريث الأنبياء، وإيصال الصوت بما له من عذوبة ورصانة وشمولية وحقّانية وشفافية إلى جميع الخلائق، وإلى مختلف بقاع الكون، فيلقي الحجج على الأسماع، فلا يبقى أحد إلاَّ وقد وصله نداء الحقّ من مصدر نقي وصافٍ زلال وبأمواج صحيحة، وعليه ستنفد كلّ السبل ولا يبقى لأحد حجّة (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (الأنعام: ١٤٩).

ومن هنا فلا ريب أنَّه سيُستجاب للنداء الحقّ من قبل الكلّ، إلاَّ النفوس المريضة والمعاندة والمتعصّبة وصاحبة النفع، قال تعالى: (في‏ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً) (البقرة: ١٠).

كما أنَّ الأمّة في عصره (عليه السلام) تنشطر إلى معسكرين: معسكر الحقّ المحض ومعسكر الباطل المحض، ولا يختلط الحقّ بالباطل، بل إنَّ قوى الظلام سوف تتحالف وتدخل في حربٍ معه (عليه السلام) بهدف إطفاء نوره وضيائه.

ثمّ إنَّ حرب الإمام (عليه السلام) حرب دفاعية عسكرياً. فقد ورد أنَّ البادئ في الحروب هم أعداء الإمام (عليه السلام) كالسفياني، فلا يكون له همّة إلاَّ آل محمّد وشيعتهم(1)، وهي حرب هجومية فكرياً لأنَّها تقوم بعد استنفاد كلّ طرق المحاججة والحوار العلمي، وهي حربٌ مقاصدها إلهية وسعادة دنيوية أخروية، لا مقاصد لها ذاتية أو فئوية أو طائفية.

فلا مجال للأهواء ولا للتشفي ولا للانتقام السلبي ولا للروح التوسعية والدكتاتورية، بل ستذوب نظريات ورؤى فكرية ودراسات وضعية قهراً بنهوض الفكر النابع من العين الأزلية الكاشف عن فساد وبطلان وضعف النظريات الاُخرى.

فنحن نقترب إلى عصر الظهور كلَّما تكاملت العلوم الحقّة، حتَّى تكون عوناً لخدمة المشروع العالمي، فموسوعة العلم والعقل ممهّدة لحركة الإمام المهدي عليه السلام، وموسوعة إحياء الدنيا قنطرةٌ للفكر المهدوي وارتقاء المفاهيم السامية، فليس مشروعه (عليه السلام) متقوّماً على أساس فلسفة عدم الاعتناء بعمران الدنيا والزهد بها وإهمال شأنها، فما صدر عن بعض المتوهمين أنَّ الخطاب الديني أخروي صِرف ومتقوّم على إهمال شأن الدنيا _ بل أسند هؤلاء علّة التخلّف في المجتمعات الإسلاميّة إلى هذه النظرة الباطلة _ مجانبٌ للحقيقة والواقع كما يظهر جلياً بمراجعة الروايات العامّة في تقييم الدنيا في نظر المؤمن ولابدّية توقيرها كإحياء القبر والطريق واستحباب غرس الشجر حتَّى لو قامت القيامة، ولا تنافي بين روايات ذمّ حبّ الدنيا وطول الأمل وبين الروايات الآمرة على إحياء الدنيا وإعلاء مدنيتها وحضارتها، وإن صحب مشروعه المقدَّس بعضُ ما لا بدَّ منه من لوازم حتمية كقتل الكافرين وتدمير العمران ودخول الرعب في قلوب المشكّكين ونحو ذلك ممَّا قد يوهم وصفها بالشرور، إلاَّ أنَّها أمور لا بدَّ منها حتماً لتحقيق الحكومة العادلة، كما في التقنين العامّ المقارن لسدّ بعض المنافع الذاتية لبعض الناس فإنَّه سائغ وإن لم ترتضِه بعض النفوس النفعية.

فمفهوم العدالة والديمقراطية والحرّية والحداثة في غاية الوضوح إلاَّ أنَّ مصاديقها في غاية الخفاء، فقد ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلُقاً، تكون به غيبة وحَيْرة تضل فيها الأمم، ثمّ يُقبل كالشهاب الثاقب يملأها عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً(2).

لا يقال: إن كان للإمام (عليه السلام) تلك الأوصاف والكمالات فلِمَ يستعين بما هو قبيح بحكم العقل من العنف والحرب والقتل.

فإنَّ هذا لا يتوهَّمه من يلتفت إلى أنَّ منهجه (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأْلْبابِ) (البقرة: ١٧٩)، أي على أساس استئصال العضو الفاسد لسلامة الباقي، وحينئذٍ ستنعم الأمّة بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية وستصل إلى البرّ المنشود، وسترسو سفينة البشرية إلى مرفأها الأخير (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: ٥٦).

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام يقول: (الزم الأرض لا تحرّكنَّ يدك ولا رجلك أبداً حتَّى ترى علامات أذكرها لك في سنة...) إلى أن قال: (ويظهر السفياني ومن معه حتَّى لا يكون له همّة إلاَّ آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وشيعتهم، فيبعث بعثاً إلى الكوفة، فيصاب بأناس من شيعة آل محمّد بالكوفة قتلاً وصلباً...) (أنظر: تفسير العياشي ١: ٦٤/ ح ١١٧).

(2) كمال الدين: ٢٨٦/ باب ٢٥/ ح ١.

المصدر : العقيدة المهدوية إشكاليات ومعالجات

تأليف: السيّد أحمد الإشكوري

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.1089 Seconds