منذ أن غاب الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن الأنظار، وبدأت الغيبة الكبرى، دخلت الأمة مرحلة دقيقة من تاريخها الإيماني، لا تشبه أيّ مرحلة سابقة. إنها ليست مجرّد غياب للإمام عن الأنظار، بل امتحان إلهيّ شامل يختبر فيه الله صدق الإيمان وعمق الولاء ونقاء السريرة.
الغيبة ليست فراغًا، بل اختبارًا
حين يغيب القائد الإلهي، يبرز سؤال جوهري: هل يكون الإيمان صادقًا حتى في غياب المشاهدة؟ إنّ الله تعالى، بحكمته، أراد أن يجعل الغيبة ميدانًا للتمحيص، كما قال سبحانه:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2).
ففي الغيبة، يُمتحن المؤمن في إخلاصه؛ هل يتبع الإمام لكونه حقًّا من عند الله، أم لأنّ وجوده المادي يرضي النفس ويمنح الأمان؟
الغيبة تميّز بين من جعل ولاءه لله ولحججه عن بصيرة، وبين من ربط إيمانه بالمشاهدة والعادة.
التمحيص العقدي: الغربلة الكبرى
روى الأئمة عليهم السلام أن في زمن الغيبة “يمتاز المؤمنون كما يمتاز الذهب بالنار”، أي أنّ الغيبة تُغربل الصفوف وتُظهر المعادن الحقيقية للناس. فمنهم من يضعف، ومنهم من يصمد، ومنهم من يتحول انتظار الفرج عنده إلى منهج حياة، لا إلى حالة سلبية.
التمحيص العقدي هو مرحلة غربلة القلوب:
فالمؤمن المتيقن يزداد يقينًا،
والمنافق يزداد شكًّا،
والمتردد يسقط في دوامة الظنون.
وهذا ما يجعل الغيبة مدرسة إيمانية، لا مجرد غياب زمني.
فلسفة الابتلاء في الغيبة
الابتلاء سنة إلهية في كل حركة إيمان كبرى. كما ابتُلي نوح بطول الانتظار، وإبراهيم بالنار، وموسى بهروب فرعون، كذلك تُبتلى أمة محمد بغيبة إمامها الأخير، حتى تنضج القلوب وتتهيأ الأرض لاستقبال العدل الكامل.
إنّ الله لا يريد من المؤمن مجرد الإقرار العقلي بالإمام، بل يريد تربية النفوس على الثبات دون دعم الحسّ أو المشاهدة. وهذه أعلى درجات الإيمان، كما قال الإمام الصادق عليه السلام:
“فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ : ﴿ ... يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ... ﴾ 1 قَالَ : " يَعْنِي يَوْمَ خُرُوجِ الْقَائِمِ الْمُنْتَظَرِ مِنَّا " .
ثُمَّ قَالَ ( عليه السَّلام ) : " يَا أبَا بَصِيرٍ ، طُوبَى لِشِيعَةِ قَائِمِنَا الْمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ فِي غَيْبَتِهِ ، وَ الْمُطِيعِينَ لَهُ فِي ظُهُورِهِ ، أُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ "
بحار الأنوار: 52 / 145 ،.
”
الغيبة زمن بناء الإيمان لا زمن الجمود
قد يتوهم البعض أن زمن الغيبة هو زمن الانتظار السلبي، بينما الحقيقة أنه زمن العمل والتمهيد. فمن لم يعمل في الغيبة لن يكون من العاملين عند الظهور.
إنّ الله يختبر عباده: من سيحمل راية الدين في زمن الغيبة، دون أن يراه، ودون أن يُكافأ؟ هؤلاء هم الذين يمهّدون فعلاً لظهوره.
الثبات في زمن الغيبة: أعظم مراتب الطاعة
الثبات في زمن الغيبة يوازي في قيمته الجهاد في صدر الإسلام، لأنّ كليهما صبرٌ في وجه الغيب والفتن. فالإيمان بالمهدي في زمن غيبته ليس إيمانًا بالتاريخ، بل إيمانٌ بالمستقبل الإلهي.
من يثبت على هذا الطريق يعيش حالة انتظار واعٍ، لا ييأس ولا يملّ، لأنّه يعلم أنّ الغيبة ليست انقطاعًا، بل امتدادٌ خفيّ للقيادة الإلهية، تدبّر الأمة بلطفٍ غير منظور.
الخاتمة
الغيبة الكبرى ليست عقوبة، بل رحمة ممزوجة بالامتحان.
هي المرآة التي تعكس عمق الإيمان في القلوب، والفاصل بين من يؤمن بالغيب ومن يؤمن بالمشاهدة.
وما أشدّ حاجة المؤمن اليوم إلى أن يدرك أنّ زمن الغيبة هو زمن المسؤولية الكبرى، لا زمن الانتظار البارد، لأنّ كل من يثبت فيها بحق، هو ممّن قال الله في
هم:
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾،
وهم أول من يستحقون رؤية الحق عند ظهوره.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة