لماذا اختار الإمام المهدي (عج) بغداد عاصمةً لسفارته؟

, منذ 8 شهر 505 مشاهدة

قبل الخوض في بيان أسباب اختيار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بغداد محلًّا لسفارته نشير إلى بعض المشاهد التاريخيَّة حول سامرَّاء محلّ ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وسبب تركه لها.

أشارت النصوص التاريخيَّة إلى أنَّ سامرَّاء كانت أكثر من نصف قرن عاصمة الخلافة العبَّاسيَّة، وأصبحت زهرة البلدان ودُرَّة التيجان، لا أجمل ولا أعظم ولا آنس ملكاً منها، لكنَّها تحوَّلت إلى خراب بمجرَّد انتقال الخلافة العبَّاسيَّة عنها إلى بغداد، فغار نبعها دفعة واحدة، ولم يبقَ منها سوى موضع غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وقبر أبيه وجدِّه ومحلَّة أُخرى بعيدة تُسمَّى: كرخ سامرَّاء، وسائر ذلك خراب يستوحش الناظر إليه.

وتعاقب في تلك الفترة ثمانية من خلفاء بني العبَّاس على سامرَّاء، ابتداءً بالمعتصم حيث انتقل إليها عام (٢٢٧هـ)، وبويع بعده للواثق حتَّى عام (٢٣٢هـ)، ومن ثَمَّ المتوكِّل حتَّى عام (٢٤٧هـ) حيث قتله الأتراك بعد ليلة حمراء زاخرة باللهو والشراب، وبويع للمنتصر وبقي ستَّة أشهر ويومين في الخلافة، ثمّ جاء بعده المستعين عام (٢٤٨هـ) حتَّى خلع نفسه عام (٢٥٣هـ) وجلس مكانه المعتزُّ بالله، ثمّ خلعه الأتراك عام (٢٥٦هـ) وبايعوا المعتمد حتَّى عام (٢٧٩هـ)، وبعده نصبوا المعتضد في بغداد، وبه كانت نهاية العاصمة سامرَّاء.

اشتهر هؤلاء الخلفاء باللهو والخمر والمنادمة ما عدا المهتدي حيث كان أحسنهم مذهباً وأجملهم طريقةً، وقد كان في بني العبَّاس كعمر بن عبد العزيز في بني أُميَّة.

ويعود سبب بناء المعتصم مدينة سامرَّاء إلى أنَّه رأى ازدحام الموالي في جيشه وقُوَّاده، وكذا ازدحام الأتراك والمغاربة والفراغنة في العاصمة بغداد، وتعرُّضهم إلى الأهالي بالأذى، وعدم عنايتهم بالسلوك الحميدة تجاه الناس، قرَّر بناء سامرَّاء ثمّ نقل الخلافة والجيش إليها، وانتقل إليها بالفعل عام (٢٢٠هـ).

وأمَّا الخصوصيَّات التي اشتهر بها الخلفاء، فقد ذُكِرَ أنَّ بعضهم اشتهر بالقوَّة والبعض الآخر بالضعف، فاستقلَّ القُوَّاد في العاصمة سامرَّاء، وسيطروا على دفَّة الحوادث ومجريات الأُمور، واستولوا على مركز الخلافة، وصاروا يُزعجون الخليفة، فمرَّة يشغبون عليه، وأُخرى يقتلونه، وثالثة ينصبون غيره، وذاق هؤلاء الخلفاء الثمانية الأمرَّين، حتَّى خرج المعتمد من سامرَّاء عام (٢٧٩هـ) إلى حيث مات، واستهلَّ خلفه المعتضد ببغداد في العام نفسه.

وأمَّا الحوادث العامَّة التي شهدتها سامرَّاء منذ بنائها وإلى أُفول الخلافة عنها أيَّام المعتضد سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي:

منها: استيلاء الأتراك والموالي على دفَّة الحكم والسياسة العليا في العاصمة سامرَّاء، والعُمَّال والأُمراء على الأطراف، وعزل الخليفة جزئيًّا أو كلّيًّا عن النظر في شؤون الدولة، ومن هؤلاء: بغا الكبير، وابنه موسى، وأخوه محمّد، وكيغلغ، وبابكيال، وأسارتكين، وسيماء الطويل، وياركوج، وطبايغو، واذكوتكين، وبغا الصغير، ووصيف التركي، وغيرهم، وهذان الأخيران كانا قد تفرَّدا بالأُمور حتَّى قيل فيهما:

خليفة في قفص * * * بين وصيف وبغا

يقول ما قالا له * * * كما تقول الببغا

ومنها: الحروب والمناوشات الداخليَّة في العاصمة سامرَّاء بسبب ضعف الخلافة، وفي أطرافها بين الولاة والأُمراء، فكانت المُدُن الإسلاميَّة تستقبل بين فترة وأُخرى وجهاً جديداً يحكمها ويُدبِّر أُمورها ويُجبي خراجها.

ومنها: ظهور الخوارج وصاحب الزنج فترة خلافة المهتدي والمعتمد، حيث قُتِلَ الآلاف من النفوس البريئة، وهُتِكَت الأعراض، وأُحرقت عشرات المُدُن.

وصاحب الزنج هو عليُّ بن محمّد الثائر في البصرة عام (٢٥٥هـ)، وقد زعم أنَّه علوي يتَّصل نسبه بالإمام السجَّاد (عليه السلام) من ابنه زيد (عليه السلام). واستمرَّ هذا الرجل يعبث بمقدَّرات الأُمَّة، ويعيث في الأرض فساداً مدَّة خمسة عشر عاماً إلى أنْ قُتِلَ (٢٧٠هـ).

ومنها: ظهور ثورات علويَّة كثيرة في سامرَّاء وأطرافها، وهي تدعو كلُّها للرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حتَّى بلغ عددهم تلك الفترة ما يزيد على ثمانية عشر ثائراً.

وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ استعراض تلك الحوادث واستقصاءها يدلُّ بوضوح على معرفة سبب اختيار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بغداد عاصمة له فترة الغيبة، ونذكر أهمَّها:

أوَّلاً: البُعد عن الرقابة:

استطاع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) باختياره بغداد كسر طوق الحصار الذي فرضته السلطات الحاكمة على تحرُّكاته، وضمن - وبشكل أفضل - ممارسة عمله ولو بحرّيَّة نسبيَّة عمَّا كان في سامرَّاء، فهو (عجَّل الله فرجه) بعيد عن عيون السلطة وجواسيسها وملاحقاتها له ولأصحابه.

ثانياً: إرسال بياناته إلى الأُمَّة الإسلاميَّة:

لم يكن التفاف الأُمَّة يُشكِّل خطراً على الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بقدر ما كان في سامرَّاء، وكان في اختياره بغداد حفاظاً على أصحابه من الوقوع في قبضة السلطات، والدفاع عنهم إنْ تطلَّب ذلك، مضافاً إلى قدرته البالغة في إرسال أكبر عدد من النداءات والبيانات إلى سُفرائه لإيصالها إلى الأُمَّة الإسلاميَّة وحلّ مشكلاتها.

ثالثاً: تطبيقه مسلك الاحتجاب وتتميمه بأعلى مستواه.

رابعاً: موقع بغداد السياسي والجغرافي:

لقد تمتَّعت بغداد بموقع سياسي وجغرافي لا نظير له آنذاك، حيث صيَّرها مرمى لأنظار المفكِّرين والفلاسفة والأُدباء وغيرهم في مختلف العلوم، وكانت تُعقَد فيها الندوات الفكريَّة والثقافيَّة للحوار في أُمور العقيدة والحياة، وصارت ملتقى للأفكار الناضجة والمتفتِّحة في العالم الإسلامي.

ولم تتحدَّث النصوص الإسلاميَّة عن بقاء السفراء في بغداد مدَّة سفارتهم، بل كانوا يخرجون بين الحين والآخر منها إلى الأطراف للقيام بعمل تجاري أو إنجاز مشروع عامٍّ أو أداء فريضة الحجِّ ثمّ استلام النداءات من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد حصلت لقاءات منهم للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بيت الله الحرام لمرَّات عديدة.

وقد كانت بغداد بعيدة عن ساحة الصراع السياسي القائم بين الخلفاء والأُمراء، والمناوشات الداخليَّة بين الطوائف والمذاهب الأُخرى، وحتَّى عن الهجوم الأجنبي الذي كان يُهدِّد العاصمة سامرَّاء بين الحين والآخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : سفراء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بين الحقائق والأوهام ـ تأليف: ضياء الدِّين الخزرجي

 

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.0505 Seconds