ويمكن أن يستدل لانقطاع النيابة الخاصة بدليلين:
الدليل الأوّل: ضرورة المذهب
وهذا دليل واضح لا يحتاج إلى بيان، فإنك لو راجعت كلمات أعلام الطائفة (أعلى الله مقامهم) في جميع الأعصار، لوجدت هذه الحقيقة جلية واضحة كالشمس في كلماتهم الشريفة، ولكننا ابتلينا بزمان احتجنا فيه أن نوضح الواضحات، وندلل على المسائل وإن كانت من الضرورات، صيانةً لعقائد المؤمنين ودفعاً للشبهات.
وكيفما كان، فكلمات الأعلام في هذا الشأن كثيرة، إلا أننا نكتفي بنقل كلمة واحدة، تكشف عن كون مسألة انقطاع النيابة الخاصة من الضرورات في مذهبنا.
وهذه الكلمة المهمّة، نقلها شيخ الطائفة الطوسي، عن معلّم الشيعة الشيخ المفيد، عن الثقة الجليل علي بن بلال المهلبي، عن وجه الطائفة وشيخها بلا منازع في زمانه جعفر بن محمد بن قولويه (رضوان الله تعالى عليهم جميعاً) فيما قاله عن أبي دلف الكاتب: «فلعناه وبرئنا منه، لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري رحمه الله فهو كافر منمس ضال مضل، وبالله التوفيق»(1)
ولم يعلّق الشيخ الطوسي والشيخ المفيد على قوله مما يعني إقرارهما له.
ووجه دلالة هذه الكلمة الشريفة على ما ذكرناه هو: حكم الشيعة بالكفر على مدعي السفارة، ولا وجه لهذا الحكم إلا كون المدعي قد أنكر ضرورياً من ضروريات المذهب، وقد قُرر أن المنكر للضروري إن كان ملتفتاً للملازمة بين إنكاره وتكذيب المعصوم فهو محكوم بالكفر، بل ظاهر كلمات الأعلام المتقدمين كفاية مطلق إنكار الضروري للحكم بكفر منكره.
والمهم عندنا هنا أننا قد أثبتنا من خلال هذا النص الخالد، الذي ينقله الأكابر عن الأكابر، أن ضرورة المذهب، وإجماع الفرقة المحقة قد قام على انقطاع النيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى.
الدليل الثاني: التوقيع الخارج لعلي بن محمد السمري (قدّس سره):
وهذا الدليل هو أهم الأدلة في المقام، ونصه: «بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ) وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورا، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»(2).
وقد تلقّاه أعلام الطائفة بالقبول، ولم يغمز أحد منهم في سنده، بل عدّوا صدوره من المسلّمات.
ووجه دلالته على المطلوب يمكن استفادته من خلال فقرات ثلاث:
الفقرة الأولى: «فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية»
ودلالتها واضحة، إذ أن مقام علي بن محمد السمري هو مقام النيابة الخاصة عن مولانا الحجة (عجل الله فرجه الشريف)، وقد أوصاه (عليه السلام) بجمع أمره، ونهاه عن الوصاية لأحد من بعده ليقوم هذا المقام، وعلّل ذلك بوقوع الغيبة الثانية وفي بعض النسخ (التامة)، وتعليل النهي بوقوع الغيبة كاشف عن عليّة الغيبة لامتناع هذا المقام على أحد فيها.
الفقرة الثانية: «فلا ظهور إلا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ)»
وهنا نكتة دقيقة، فدلالة هذه الفقرة على نفي السفارة والنيابة الخاصة يمكن تقريبه بتقديم مقدمتين:
المقدمة الأولى: أن الإمام صلوات الله وسلامه عليه له نحوان من الظهور:
النحو الأول: ظهور عام لجميع الناس.
النحو الثاني: ظهور خاص لنوابه فقط.
ولا يخفى أنَّ النحو الأول من الظهور فقد كان ثابتاً له (عليه السلام) منذ ولادته وحتى اختفائه عن أنظار الناس في الغيبة الصغرى، أي أنّه استمر لمدة خمس سنوات.
وأما النحو الثاني فهو الذي كان لخصوص سفرائه عند ابتداء الغيبة الصغرى حتى انتهائها.
المقدمة الثانية: أن الظهور المنفي في هذا التوقيع الشريف هو الظهور بالنحو الثاني لا الأوّل، إذ الأوّل منتفٍ بحسب الفرض، فنفيه يكون لغوا وتحصيلا للحاصل، وكلام المعصوم (عليه السلام) يجعل عنه.
وإذا كان الظهور الخاص المرتبط بالنّواب منفياً، فوجود النوّاب منفيٌ تبعاً له أيضاً، وبهذا يتمّ الاستدلال بهذه الفقرة على امتناع النيابة الخاصة في زمن الغيبة الكبرى.
الفقرة الثالثة: «وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر»
وتقريب الاستدلال بها: أن المشاهدة إما يراد بها المشاهدة البصرية، وإما يراد بها النيابة الخاصة.
فإن أريد الثانية: ثبت المطلوب.
وإن أُريد الأولى، فالثانية منتفية بالأولوية، وثبت المطلوب أيضاً.
وعليه فالدلالة على المطلوب في كلتا الحالتين تامّة.
التوفيق بين مفاد التوقيع ورؤية بعض الأعلام للإمام (عجل الله فرجه الشريف)
ولكن بناءً على الأوّل تبرز عندنا إشكاليةٌ مفادها تكذيب الأعلام والثقات الذين نقلت لنا رؤيتهم لبقية الله الأعظم (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى بالتواتر.
وهنا توجد عدّة أجوبة لدفع هذا الإشكال، ولكن قبل عرضها لابد أن
يتّضح أنّ أعلامنا يقررون أن المراد من المشاهدة هاهنا هو إدعاء النيابة الخاصة لا المشاهدة البصرية.
ولكن عرضنا للأجوبة هو من باب دفع توهّم إرادة المعنى الأول ليس إلا.
الجواب الأوّل: أن المشاهدة بمعنى الرؤية القطعية اليقينية
وحاصله: أنَّ المراد من المشاهدة هاهنا ليس مطلق الرؤية، وإنما خصوص الرؤية القطعية اليقينية، وشاهد ذلك أنه لو أنّ شخصاً شك في رؤية الهلال فإنه لا يصح أن يُقال عنه أنه شاهده، وأما إذا قطع وتيقّن من مشاهدته له صحّ أن يُقال أنه شاهده.
وبناءً على ذلك: فسيرة علماء الطائفة لا تتنافى مع هذا التوقيع الشريف حتى يلزم تكذيبهم، إذ هم لا يقطعون ويجزمون بأن الذي رأوه هو الإمام المنتظر، وإنما يقولون من خلال القرائن والأمارات نحتمل أنه هو (بأبي هو وأمي)، فالتوقيع ينفي شيئاً، وما عليه علماء الطائفة شيء آخر، فينحل الإشكال.
ويرد عليه:
أن المشاهدة مأخوذةٌ من الفعل (شاهد) وليست مأخوذةً من الفعل (شهد)، ولذا تقول: شاهد مشاهدةً، وشهد شهادةً، وفرقٌ بين الإثنين.
فإن الذي أُخذ في دلالته القطع واليقين هو الفعل (شهد)، بينما دلالة (شاهد) أعم من ذلك، فتشمل اليقينية والظنية أيضاً.
الجواب الثاني: أن التكذيب لادعاء المشاهدة، لا للمشاهدة.
وحاصله: أن التكذيب في التوقيع الشريف متوجهٌ لمن يدّعي المشاهدة، لا لأصل المشاهدة، إذ أنه لم يقل: (وسيأتي شيعتي من يشاهد) وإنما قال:
«وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة»، وهذا يستدعي الكلام في معنى الإدعاء.
فالإدّعاء: هو الإخبار الذي تتساوى فيه نسبة الصدق والكذب، كأن يكون فاقداً للبينة.
وبناءً على ذلك: فالتكذيب في التوقيع متوجه للمدعي الذي تتساوى نسبة الصدق والكذب في كلامه، وهذا لا ينطبق على علماء الطائفة العظام الذين نحرز ثقتهم وورعهم وتقواهم كأصحاب الكرامات مثل السيد بحر العلوم والمقدس الأردبيلي (رضوان الله تعالى عليهما)، فإنَّ نسبة الصدق هي الراجحة له ولأمثاله على أقل التقادير، إن لم نقل إنها فيهم يقينية.
وعليه: فالنص لا يشمل علماء الطائفة.
الجواب الثالث: المراد من المشاهدة هي النيابة الخاصة.
وأُشكل عليه بمخالفته للمتفاهم العرفي، إذ المتفاهم من المشاهدة هو الرؤية.
ويُجاب عنه أنَّ من المقرر في علم الأصول أن التمسّك بالمتفاهم العرفي لا يكون إلا عند انعدام القرينة، وأما عند وجودها فترفع اليد عن هذا الظهور البدوي، ويُمنع حمله عليه، بل يجب صرفه عن ظاهره.
وبما أن القرائن الصارفة موجودة في المقام - وتكفيك منها المذكورتان في الفقرتين الأوليين - فهذا يكفي لحمل اللفظ على النيابة الخاصة.
وما دام الكلام قد بلغ بنا إلى هذا المقام، فلا بأس أن نقف قليلاً عند مسألة إمكان رؤية الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) في زمن الغيبة الكبرى، ومعرفة الحق فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغيبة لشيخ الطائفة ص٤١٢.
(2) كمال الدين وتمام النعمة ص٥١٥، الغيبة للشيخ ص٣٩٥، الخرائج للقطب ٣\١١٢٨
المصدر : المهدوية الخاتمة فوق زيف الدعاوى وتضليل الأدعياء - الجزء الأول.
تقريراً لأبحاث سماحة السيد ضياء الخباز القطيفي (دام عزّه).
بقلم: عبد الله سعد معرفي.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة