لقد تعاملت السلطة العباسية بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مع عائلته تعاملاً يدل على خيفتها من مولود خطير خفي عنها، فراحت تبحث عنه بكل ما أوتيت من وسيلة وقدرة، حيث أمر المعتمد العباسي (ت ٢٧٩ هـ) شرطته بتفتيش دار الإمام الحسن العسكري تفتيشاً دقيقاً والبحث عن الإمام المهدي (عليه السلام)، وأمر بحبس جواري أبي محمد (عليه السلام)، واعتقال حلائله يساعدهم على ذلك جعفر الكذّاب، «وجرى على مخلّفي أبي محمد (عليه السلام) بسبب ذلك كلّ عظيمة، من اعتقال، وحبس وتهديد، وتصغير، واستخفاف، وذلٍّ»(1).
كلّ هذا والإمام المهدي (عليه السلام) في الخامسة من عمره، ولا يهم المعتمد العمر بعد أن عرف أ نّ هذا الصبي هو الإمام الذي سيهد عرش الطاغوت لما شاع وانتشر من الخبر، بأنّ ثاني عشر أهل البيت (عليهم السلام) سيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، فكان موقفه من المهديّ، كموقف فرعون من موسى (عليه السلام) الذي ألقته اُمّه - خوفاً عليه - في اليمّ صبياً.
ولم يكن المعتمد العباسي وحده قد عرف هذه الحقيقة، وإنّما عرفها من كان قبله كالمعتز، والمهتدي، ولهذا كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) حريصاً على أن لا ينتشر خبر ولادة الإمام المهدي إلاّ بين أفراد منتخبين من شيعته ومواليه.
لقد كان تصرُّف السلطة كاشفاً عن أنّها وسائر الناس قد أدركوا تماماً أنّ حديث جابر بن سمرة لا ينطبق عليهم ولا على من سبقهم من الاُمويين، وإنّما مصداقه الوحيد هم أهل بيت النبوّة، ومهبط الوحي والتنزيل.
وإلاّ فأيّ خطر يهدد كيانهم في طفل لم يتجاوز خمس سنين؟! لو لم يعتقدوا أنّه هو المهدي المنتظر الذي تحدثت عنه الأحاديث المتواترة. يقول أحد الباحثين: ولو لم يكن مولوداً حقاً فما معنى حبس الجواري وبث القابلات لتفتيش من بهنّ حمل، ومراقبتهنّ مدة لا تصدّق، إذ بقيت إحداهنّ تحت المراقبة لمدة سنتين! كلّ هذا مع مطاردة أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) والتشنيع عليهم، مع بث العيون للتجسّس عن خبر المهدي (عليه السلام)، وكبس داره بين حين وآخر.
ثم ما بال السلطة لم تقتنع بما زعمه جعفر من أنّ أخاه (عليه السلام) مات ولم يخلّف؟
أما كان بوسعها أن تعطيه حقّه من الميراث وينتهي كلّ شيء من غير هذا التصرُّف الأحمق الذي يدلّ على ذعرها وخوفاً من ابن الحسن (عجّل الله فرجه)؟!
نعم، قد يقال بأنّ حرص السلطة على إعطاء كل ذي حقٍّ حقه هو الذي دفعها الى التحري عن وجود الولد لكي لا يستقل جعفر بالميراث وحده بمجرد شهادته!
فنقول: ليس من شأن السلطة الحاكمة آنذاك أن تتحرّى عن هذا الأمر بمثل هذا التصرُّف المريب، بل كان على الخليفة العباسي أن يحيل دعوى جعفر الكذاب الى أحد القضاة، لا سيّما وأنّ القضية من قضايا الميراث التي يحصل مثلها كلّ يوم مرات، وعندها سيكون بوسع القاضي أن يفتح محضراً تحقيقياً، فيستدعي مثلاً عمة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، واُمه، وجواري الإمام، والمقربين الى الإمام الحسن العسكري من بني هاشم، ثمّ يستمع الى أقوالهم، ويثبت شهاداتهم، ثمّ ينهي كل شيء، ولكن وصول هذه القضية الى أعلى رجل في السلطة، وبهذه السرعة ولمّا يدفن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وخروج القضية عن دائرة القضاء مع أ نّها من اختصاصاته، ومن ثم تصرف السلطة الغاشمة على نحو ما مرّ، كل ذلك يقطع بأنّ السلطة كانت على يقين بأن المهدي الموعود هو الحلقة الأخيرة من حلقات السلسلة المطهّرة التي لا يمكن أن تنقطع بموت الإمام الحادي عشر (عليه السلام)، خصوصاً بعد أن تواتر لدى الجميع قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وإنّهما - أي: الكتاب، والعترة - لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» ومعنى عدم ولادة المهدي (عليه السلام)، أو عدم استمرار وجوده، انقراض العترة، وهذا ما لا يقوله أحد ممّن تسمى (بإمرة المؤمنين) من العباسيين؛ لأنّه تكذيب لنبيّنا الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل لا يقوله أحد من المسلمين إلاّ من هان عليه أمر هذا التكذيب، أو من خدع نفسه بتأويل حديث الثقلين وصرف دلالته الى ما لم يأت به سلطان مبين».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد / الشيخ المفيد، ٢: ٣٣٦.
المصدر : المهدوية عند أهل البيت (عليهم السلام) ـ تأليف: الشيخ عبد الكريم البهبهاني.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة