الإمام المهدي في الفكر الإسلامي: الغيبة بين الحكمة والإعداد الإلهي

, منذ 1 اسبوع 64 مشاهدة

المقدمة
من القضايا الكبرى التي شغلت الفكر الإسلامي عبر العصور مسألة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه)، بوصفها الركن الأصيل في عقيدة العدالة الإلهية، ومظهر الوعد الإلهي بخلاص البشرية من الظلم والطغيان. لم تكن فكرة المخلّص وليدة لحظة يأس اجتماعي، بل هي جزء من المنظومة الإيمانية التي بشّر بها الأنبياء جميعًا، وتجلّت بأبهى صورها في شخص الإمام المهدي، الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
أولًا: جذور الفكرة في النصوص الإسلامية
ورد ذكر المهدي في روايات متواترة عند المسلمين، سنّةً وشيعةً، تؤكد خروجه في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا.
قال النبي (صلى الله عليه وآله):
«لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلًا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت جورًا وظلمًا» (رواه الترمذي وأحمد).
وعند مدرسة أهل البيت، تتعمّق هذه العقيدة في تفاصيلها، إذ تؤكد الروايات أنّ المهدي هو محمد بن الحسن العسكري، ولد سنة 255 هـ في سامراء، وغاب بأمر الله لحكمة عليا.
ثانيًا: معنى الغيبة وحكمتها
الغيبة ليست انقطاعًا تامًا، بل هي ستر لشخصه دون انقطاع عن الأمة في تدبيرها وهدايتها.
فقد شبّهت الروايات غيبته بالشمس خلف السحاب، كما قال الإمام المهدي (ع):

«وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب».
الحكمة من الغيبة تتعدّد:
الامتحان الإلهي للناس في ثباتهم على الإيمان بغير مشاهدة.
حفظ الإمام من القتل بعد أن تكالبت قوى الظلم على أئمة الهدى.
تهيئة الأرضية العقائدية والاجتماعية لاستقبال الدولة العادلة الكبرى، حيث لا يُقام العدل الكامل إلا حين تنضج الإنسانية لتقبّله.
استمرار الولاية الإلهية بوجود الحجة على الأرض، إذ «لو خلت الأرض من حجة لساخت بأهلها» (الكافي، ج1، ص178).
ثالثًا: الغيبة كمرحلة إعداد إلهي
إن الغيبة الكبرى ليست تعطيلًا لعمل الإمام، بل هي مرحلة إعداد وتربية للأمة من خلال وكلائه، وعلمائه، والقلوب المؤمنة التي تتربّى على ثقافة الانتظار.
فالغيبة في جوهرها ليست بعدًا، بل حضورٌ من نوعٍ آخر؛ حضور في الوعي والضمير، في التوجيه الغيبي، وفي حفظ الدين من الانحراف.
وقد ورد في دعاء الندبة:
«بنفسي أنت من مغيّبٍ لم يخلُ منّا، بنفسي أنت من نازحٍ ما نزح عنّا».
رابعًا: البعد الإيماني في الغيبة
الإيمان بالمهدي ليس مجرد انتظار لحدثٍ قادم، بل هو تعبير عن الثقة بالله وعدله، وعن الأمل الذي لا ينقطع مهما اسودّت الدنيا.
الغيبة تزرع في المؤمن روح الصبر والثبات، وتربطه بالله من خلال الإيمان بحكمته الخفية.
كما أن معرفة الإمام والتمسك بولايته في زمن الغيبة من أعظم القربات، لقوله (ص):
« من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية ».
خامسًا: الغيبة ودور الأمة
تتحمّل الأمة في زمن الغيبة مسؤولية كبرى، وهي حفظ الدين والاستعداد لنصرة الإمام عند ظهوره.
وقد بيّن العلماء أن الانتظار الحقيقي عملٌ وبناء، لا قعودٌ وسكون.
فكل خطوة في سبيل إقامة الحق ومقاومة الظلم هي في حقيقتها تمهيد لظهور المهدي الموعود.
كما ورد عن الإمام الصادق (ع):
« من سر أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق، وهو منتظر، فان مات وقام القائم بعده كان له من الاجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا هنيئا لكم أيتها العصابة المرحومة ».
الخاتمة
إن غيبة الإمام المهدي ليست غيابًا عن الواقع، بل هي تدبير ربّاني عميق لإعداد البشرية للعدالة الكبرى.
إنها مرحلة الامتحان والتمهيد، حيث تُصقل النفوس وتُختبر القلوب، حتى إذا جاء وعد الله، أشرقت الأرض بنور ربها، وظهرت دولة الحق الإلهي التي بشّر بها جميع الأنبياء.
فالغيبة ليست غياب الأمل، بل هي انتظار الفجر الذي يبدد ظلام القرون.

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.4197 Seconds