هنا جملة من الطوائف الروائيَّة التي دلَّت على وجوده (عجَّل الله فرجه)، وسنحاول الوقوف على بعض أمثلتها، وليس المقصود أبداً استيعابها جميعاً وإلَّا اتَّسع البحث إلى ما لا يتلائم مع الغرض من كتابة هذه الأوراق.
وكلُّ هذه الأخبار إلَّا طائفة أو طائفتين ترجع إلى إخبارات المعصومين (عليهم السلام).
المعصومون (عليهم السلام) الذين يُنبؤوننا عن الغيب فنُصدِّقهم، ويُخبروننا عن الله (عزَّ وجلَّ) فنقبل منهم، ويُعلِّموننا الكتاب والحكمة فنذعن لهم؛ لأنَّنا نعلم أنَّ ما يُخبِرون به ويتحدَّثون عنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهم الذين لا ينطقون عن الهوى، طابت وطهرت نفوسهم، وكم هو جميل كلام خزيمة بن ثابت في قصَّة شراء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرساً من الأعرابي، وهي قصَّة معروفة.
فعن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اشترى فرساً من أعرابي، فأعجبه، فقام أقوام من المنافقين حسدوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على ما أخذ منه، فقالوا للأعرابي: لو تبلَّغت به إلى السوق بعته بأضعاف هذا، فدخل الأعرابي الشَّرَه، فقال: ألَا أرجع، فأستقيله؟ فقالوا: لا، ولكنَّه رجل صالح، فإذا جاءك بنقدك فقل: ما بعتك بهذا فإنَّه سيردُّه عليك، فلمَّا جاء النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخرج إليه النقد، فقال: ما بعتك بهذا، فقال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والذي بعثني بالحقِّ لقد بعتني بهذا»، فقام خزيمة بن ثابت فقال: يا أعرابي، أشهد لقد بعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذا الثمن الذي قال، فقال الأعرابي: لقد بعته وما معنا من أحد، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لخزيمة: «كيف شهدت بهذا؟»، فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمّي تُخبِرنا عن الله وأخبار السماوات فنُصدِّقك ولا نُصدِّقك في ثمن هذا؟ فجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شهادته شهادة رجلين، فهو ذو الشهادتين(1).
والروايات التي أوردتها - ولادته (عجَّل الله فرجه) - كثيرة، وسنبدأ باستعراض بعض أمثلة طوائفها:
الطائفة الأُولى: ما دلَّ على ولادته مطابقةً:
١ - كمال الدِّين: حدَّثنا الحسين بن أحمد بن إدريس (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا أبي، قال: حدَّثنا محمّد بن إسماعيل، قال: حدَّثني محمّد بن إبراهيم الكوفي، قال: حدَّثنا محمّد بن عبد الله الطهوي، قال: قصدت حكيمة بنت محمّد (عليه السلام) بعد مضيِّ أبو محمّد (عليه السلام) أسألها عن الحجَّة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها، فقالت لي...
فقلت: يا مولاتي، هل كان للحسن (عليه السلام) ولد؟
فتبسَّمت، ثمّ قالت: إذا لم يكن للحسن (عليه السلام) عقب فمن الحجَّة من بعده وقد أخبرتك أنَّه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام)؟
فقلت: يا سيِّدتي، حدِّثيني بولادة مولاي وغيبته (عليه السلام).
قالت: نعم، كانت لي جارية يقال لها: نرجس، فزارني ابن أخي، فأقبل يحدق النظر إليها، فقلت له: يا سيِّدي، لعلَّك هويتها، فأُرسلها إليك؟
فقال: «لا يا عمَّة، ولكنّي أتعجَّب منها».
فقلت: وما أعجبك [منها]؟
فقال (عليه السلام): «سيخرج منها ولد كريم على الله (عزَّ وجلَّ)، الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً(2).
٢ - كمال الدِّين: حدَّثنا عليُّ بن الحسن بن الفرج المؤذِّن (رضي الله عنه)، قال: حدَّثني محمّد بن الحسن الكرخي، قال: سمعت أبا هارون - رجلاً من أصحابنا - يقول: رأيت صاحب الزمان (عليه السلام)، وكان مولده يوم الجمعة سنة ستّ وخمسين ومائتين(3).
٣ - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن موسى بن المتوكِّل (رضي الله عنه)، قال: حدَّثني عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدَّثني محمّد بن إبراهيم الكوفي أنَّ أبا محمّد (عليه السلام) بعث إلى بعض من سمّاه لي بشاة مذبوحة، وقال: «هذه من عقيقة ابني محمّد»(4).
٤ - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن عليٍّ ماجيلويه (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن يحيى العطّار، قال: حدَّثنا الحسين بن عليٍّ النيسابوري، قال: حدَّثنا الحسن بن المنذر، عن حمزة بن أبي الفتح، قال: جاءني يوماً فقال لي: البشارة، وُلِدَ البارحة في الدار مولود لأبي محمّد (عليه السلام)، وأمر بكتمانه، قلت: وما اسمه؟ قال: سُمّي بمحمّد، وكُنّي بجعفر(5).
٥ - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه)،
قال: حدَّثنا الحسن بن عليِّ بن زكريا بمدينة السلام، قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمّد بن خليلان، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن غياث بن أسيد، قال: شهدت محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) يقول: لمَّا وُلِدَ الخلف المهدي (عليه السلام) سطع نور من فوق رأسه إلى أعنان السماء، ثمّ سقط لوجهه ساجداً لربِّه (تعالى ذكره)، ثمّ رفع رأسه وهو يقول: «﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٨ و١٩]»، قال: وكان مولده يوم الجمعة(6).
٦ - كمال الدِّين: بهذا الإسناد(7)، عن محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) أنَّه قال: وُلِدَ السيِّد (عليه السلام) مختوناً، وسمعت حكيمة تقول: لم يُرَ بأُمِّه دم في نفاسها، وهكذا سبيل أُمَّهات الأئمَّة (عليهم السلام)(8).
٧ - كمال الدِّين: حدَّثنا أبو العبّاس أحمد بن الحسين بن عبد الله بن مهران الآبي الأزدي العروضي بمرو، قال: حدَّثنا أحمد بن الحسن بن إسحاق القمّي، قال: لمَّا وُلِدَ الخلف الصالح (عليه السلام) ورد عن مولانا أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) إلى جدِّي أحمد بن إسحاق كتاب، فإذا فيه مكتوب بخطِّ يده (عليه السلام) الذي كان ترد به التوقيعات عليه، وفيه: «وُلِدَ لنا مولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فإنّا لم نُظهِر عليه إلَّا الأقرب لقرابته والوليَّ لولايته، أحببنا إعلامك ليسرَّك الله به مثل ما سرَّنا به، والسلام»(9).
٨ - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن الحسن الكرخي، قال: حدَّثنا عبد الله بن العبّاس العلوي، قال: حدَّثنا أبو الفضل الحسن بن الحسين العلوي، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن ابن عليٍّ (عليهما السلام) بسُرَّ من رأى، فهنَّأته بولادة ابنه القائم (عليه السلام)(10).
٩ - الغيبة للطوسي: أخبرنا جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري، عن أحمد بن عليٍّ الرازي، قال: حدَّثني محمّد بن عليٍّ، عن حنظلة بن زكريّا، عن الثقة، قال: حدَّثني عبد الله بن العبّاس العلوي - وما رأيت أصدق لهجةً منه، وكان خالفنا في أشياء كثيرة -، قال: حدَّثني أبو الفضل الحسين بن الحسن العلوي، قال: دخلت على أبي محمّد (عليه السلام) بسُرَّ من رأى، فهنَّأته بسيِّدنا صاحب الزمان (عليه السلام) لمَّا وُلِدَ(11).
١٠ - كمال الدِّين: وقال أبو الحسن عليُّ بن محمّد حباب، حدَّثني أبو الأديان، قال: قال عقيد الخادم. وقال أبو محمّد بن خيرويه التستري، وقال حاجز الوشّاء، كلُّهم حكوا عن عقيد الخادم. وقال أبو سهل بن نوبخت: قال عقيد الخادم: وُلِدَ وليُّ الله الحجَّة بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى ابن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهم) أجمعين ليلة الجمعة غرَّة شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين من الهجرة، ويُكنّى أبا القاسم، ويقال: أبو جعفر، ولقبه: المهدي، وهو حجَّة الله (عزَّ وجلَّ) في أرضه على جميع خلقه، وأُمُّه صقيل الجارية، ومولده بسُرَّ من رأى في درب الرصافة، وقد اختلف الناس في ولادته، فمنهم من أظهر، ومنهم من كتم، ومنهم من نهى عن ذكر خبره، ومنهم من أبدى ذكره، والله أعلم به(12).
١١ - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن موسى بن المتوكِّل (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدَّثنا محمّد بن أحمد العلوي، عن أبي غانم الخادم، قال: وُلِدَ لأبي محمّد (عليه السلام) ولد، فسمّاه محمّداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث، وقال: »هذا صاحبكم من بعدي، وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتدُّ إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً»(13).
١٢ - كمال الدِّين: حدَّثنا أبي ومحمّد بن الحسن (رضي الله عنهما)، قالا: حدَّثنا عبد الله ابن جعفر الحميري، قال: كنت مع أحمد بن إسحاق عند العمري (رضي الله عنه)، فقلت للعمري: إنّي أسألك عن مسألة كما قال الله (عزَّ وجلَّ) في قصَّة إبراهيم: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]: هل رأيت صاحبي؟ فقال لي: نعم، وله عنق مثل ذي - وأومأ بيديه جميعاً إلى عنقه -، قال: قلت: فالاسم؟ قال: إيّاك أنْ تبحث عن هذا، فإنَّ عند القوم أنَّ هذا النسل قد انقطع(14).
وهذه الرواية لا نبالغ إنْ قلنا بكفايتها في إثبات وجوده (عجَّل الله فرجه)، إذ لا نحتمل الخطأ وتعمُّد الكذب في والد الصدوق وابن الوليد معاً، وكذا الحميري والعمري، والمسألة ليست ممَّا يتحقَّق فيه الاشتباه.
وأمَّا الدلالة فلا غبار عليها، فإنَّنا وإنْ لم نكتفِ بكلمة (صاحبي)، لكن قوله: (إيّاك أنْ تبحث عن هذا فإنَّ عند القوم أنَّ هذا النسل قد انقطع) يُشكِّل قرينة قطعيَّة على أنَّ المراد هو الإمام (عجَّل الله فرجه).
ولو لم نقطع فإنَّها موجبة للاطمئنان العالي.
١٣ - كمال الدِّين: حدَّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه)، قال: سمعت أبا عليٍّ محمّد بن همّام يقول: سمعت محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) يقول: خرج توقيع بخطٍّ أعرفه: «من سمّاني في مجمع من الناس باسمي فعليه لعنة الله»، قال أبو عليٍّ محمّد بن همّام: وكتبت أسأله عن الفرج متى يكون؟ فخرج إليَّ: «كذب الوقّاتون»(15).
ومحمّد بن همّام ثقة جليل القدر(16).
ومحمّد بن إبراهيم ترضّى عنه الشيخ الصدوق (رحمه الله)، لكن ذلك لا يُثبِت وثاقته.
وهذه الرواية لا شكَّ أنَّ المقصود فيمن خرج توقيعه هو الإمام (عجَّل الله فرجه).
كما أنَّ قوَّة احتمال صدورها واضحة، وربَّما هي أكثر من قوَّة احتمال صدور رواية في سندها خمسة ثقات مثلاً كانت نسبة مطابقة الواقع في أخبارهم بمستوى (٨٠%)؛ لأنَّ احتمال صدور هكذا رواية هو حاصل ضرب (٨٠%) في نفسها خمس مرّات وهو ما يقلُّ قليلاً عن (٣٣%).
وأمَّا هذه الرواية إذا فرضنا أنَّ نسبة المطابقة في إخبار محمّد بن إبراهيم (٥٠%) وهو قليل؛ لأنَّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) قد ترضّى عليه في المشيخة في طريقه إلى أبي سعيد الخدري وإلى أحمد بن محمّد بن سعيد، ويوجد ما يدلُّ على تشيُّع الرجل. وقد روى عنه الصدوق (رحمه الله) كثيراً، وكنّاه في أكثر من مورد بأبي العبّاس(17).
وهذه القرائن إنْ لم تُثبِت وثاقته، فلا أقلَّ من عدم كونه معروفاً بالكذب.
وهذا يجعل احتمال الصدق في خبره أكثر من (٥٠%) بمقدار واضح، لكن لو فرضنا أنَّ نسبة المطابقة في خبره هذا (٥٠%) ونسبة المطابقة في خبر محمّد بن همّام باعتباره جليل القدر (٩٠%)، فاحتمال صدور الخبر (٤٥%)، وهو أكثر بلا شكٍّ من (٣٣%).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاختصاص (ص ٦٤).
(2) كمال الدِّين (ص ٤٢٦/ باب ٤٢/ ح ٢).
(3) كمال الدِّين (ص ٤٣٢/ باب ٤٢/ ح ٩).
(4) كمال الدِّين (ص ٤٣٢/ باب ٤٢/ ح ١٠).
(5) كمال الدِّين (ص ٤٣٢/ باب ٤٢/ ح ١١).
(6) كمال الدِّين (ص ٤٣٣/ باب ٤٢/ ح ١٣).
(7) أي إسناد الرواية السابقة.
(8) كمال الدِّين (ص ٤٣٣/ باب ٤٢/ ح ١٤)
(9) كمال الدِّين (ص ٤٣٣ و٤٣٤/ باب ٤٢/ ح ١٦).
(10) كمال الدِّين (ص ٤٣٤/ باب ٤٣/ ح ١).
(11) الغيبة للطوسي (ص ٢٢٩ و٢٣٠/ ح ١٩٥).
(12) كمال الدِّين (ص ٤٧٤ و٤٧٥/ باب ٤٣/ ضمن الحديث ٢٦).
(13) كمال الدِّين (ص ٤٣١/ باب ٤٢/ ح ٨).
(14) كمال الدِّين (ص ٤٤١ و٤٤٢/ باب ٤٣/ ح ١٤).
(15) كمال الدِّين (ص ٤٨٣/ باب ٤٥/ ح ٣).
(16) راجع: معجم رجال الحديث (ج ١٥/ ص ٢٤٤ و٢٤٥/ الرقم ٩٩٩٢).
(17) راجع: معجم رجال الحديث (ج ١٥/ ص ٢٣٠ و٢٣١/ الرقم ٩٩٦١).
المصدر : إرساء المحكمات وتبديد الشبهات في القضية المهدوية ـ تأليف : الشيخ كاظم القره غولي.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة