الشمس وراء السحاب: سرّ غيبة الإمام المهدي ومعنى حضوره الغيبي في حياة الأمة

, منذ 1 اسبوع 92 مشاهدة

المقدمة

من أبلغ التشبيهات التي وردت في وصف غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ما جاء في حديثه الشريف:

«وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها السحاب».

هذا التشبيه النوراني ليس تعبيرًا بلاغيًا فحسب، بل هو بيانٌ عميق لطبيعة العلاقة بين الإمام والأمة في زمن الغيبة، يكشف عن حضوره المستمر وتأثيره الفعّال رغم خفاء شخصه عن الأبصار.

فكما أنّ الشمس تظلّ تبثّ النور والحرارة والحياة حتى وإن غطّاها السحاب، كذلك الإمام المهدي يفيض بآثاره الربانية وهدايته الإلهية وإن غاب عن الأنظار.

أولًا: دلالات التشبيه بالشمس

الشمس هي رمز الوجود والفيض الإلهي في هذا العالم، وبدونها لا يمكن للحياة أن تستمر.

حين يشبّه الإمام نفسه بالشمس، فهو يشير إلى أنّ وجوده ضرورة كونية وروحية لاستمرار العالم.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع):

«لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت».

أي أنّ الإمام هو محور التوازن بين السماء والأرض، والعروة الوثقى التي تتنزّل ببركتها الخيرات والرحمات.

أما السحاب، فيرمز إلى الغيبة التي تحجب النور المباشر لكنها لا تعطل أثره.

فالناس لا يرون الشمس خلف الغيوم، لكنهم يشعرون بحرارتها ونورها، وهكذا حال الإمام في غيبته: غائب عن العيون حاضر بالبركة والهداية.

ثانيًا: الحضور الغيبي لا المرئي

ليس المقصود بالغيبة انقطاع الإمام عن العالم أو تعطّل دوره، بل إنّ حضوره تحوّل من الحضور المادي إلى الحضور الغيبي.

فهو يشرف على الأمة بعين الله، ويرعى المؤمنين بتسديده وإلهامه، ويهدي القلوب الصافية إلى الحق بطرق خفية لا يدركها الحسّ.

قال الإمام المهدي في إحدى رسائله الى الشيخ المفيد (ره) :

« إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله جل جلاله، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله، ويحمى عليه من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون. »

.

وهذا يبيّن أنّ الغائب هو عن الأبصار، لا عن الأحداث والأفكار.

فكما أنّ الكهرباء تسري في الأسلاك دون أن تُرى، كذلك تسري بركة الإمام في قلوب المؤمنين ومجريات التاريخ.

ثالثًا: سرّ الغيبة في الامتحان والتمهيد

من حكمة الله تعالى أن يغيب الإمام ليختبر صدق الناس في إيمانهم، ويمحّصهم في ولائهم.

فالغيبة تفرز المؤمن الواعي من المتزلزل، كما قال تعالى:

﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾.

كما أن الغيبة ليست فراغًا، بل مرحلة إعداد وتمهيد لظهور العدالة الكاملة.

فالإمام يمهّد بالغيبة نفوسًا مؤمنة، وعلماء ربّانيين، وحركات إصلاحية تشكّل الأرضية لدولته المباركة.

وهذا ما يظهر جليًا في انتشار ثقافة الانتظار، وفي تنامي الوعي المهدوي عبر العصور.

رابعًا: الانتفاع بالإمام رغم الغيبة

يتساءل البعض: كيف ننتفع بإمامٍ لا نراه؟

والجواب في التشبيه نفسه: كما ينتفع الناس بالشمس خلف السحاب.

فوجود الإمام يفيض على العالم بالأمان، والهداية، والدعاء، والرعاية الغيبية.

ورد عن الإمام المهدي (ع):

« إنّي لأمانٌ لأهلِ الأرضِ كما أنَّ النّجومَ أمانٌ لأهلِ السّماء، ».

فوجوده سبب لدوام الرحمة، وبركته تشمل المؤمنين في عباداتهم وتوفيقهم، والعالم في توازنه وامتداد عمره.

إنّ القلوب التي تتوجّه نحوه بصدق تشعر بنوره الداخلي، وتلهمها الفطرة السليمة إلى الثبات واليقين، حتى دون رؤية ظاهريّة له.

خامسًا: أثر الغيبة في بناء الوعي الإيماني

إنّ غيبة الإمام لا تعني غياب المشروع الإلهي، بل تحفّز الأمة على تحمّل مسؤوليتها في حفظ الدين والعمل بالعدل.

فالانتظار هنا لا يعني التواكل، بل التهيؤ الروحي والعقلي للظهور.

قال الإمام الباقر (ع):

« إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم. ».

ومن هنا فإنّ الغيبة هي زمنُ التربية الإلهية، حيث ينضج وعي الأمة لتكون جديرة باستقبال النور المهدوي عند ظهوره.

إنّ المؤمن الموقن بالإمام يعيش حالة ارتباط دائم بالله، ويحوّل الانتظار إلى سلوكٍ إصلاحيٍ عملي في بيته ومجتمعه.

سادسًا: الحضور القلبي والشعور الوجداني بالإمام

كثير من المؤمنين يشعرون بنفحاتٍ غيبية في الدعاء أو التوفيق أو النجاة من الشدائد، وهذه من آثار الولاية الخفية للإمام المهدي.

وهذا يؤكد أن العلاقة به ليست عقلية فقط، بل عاطفية وجدانية، يتذوقها القلب المؤمن الذي يشعر بنوره دون أن يراه.

في دعاء الندبة نقرأ:

«بنفسي أنت من مغيّبٍ لم يخلُ منّا، بنفسي أنت من نازحٍ ما نزح عنّا».

أي أنّ غيبته لا تعني بُعده، بل إنّنا نعيش في ظلّ عنايته وإن لم نرَ وجهه المبارك.

 

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.1477 Seconds