الإمام المهدي بين العزلة والعيش بين الناس
المقدمة
من أكثر القضايا التي شغلت الفكر الإسلامي الشيعي في موضوع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي طبيعة غيبته: هل هي غيبة عزلةٍ وانقطاعٍ عن المجتمع البشري، أم أنّه يعيش بينهم بصورة طبيعية لكن دون أن تُعرف شخصيّته الحقيقية؟ هذا السؤال له آثار عقدية وتاريخية مهمة، ولذلك يحتاج إلى بحثٍ علمي يستند إلى النصوص والروايات والعقل.
أولاً: معنى الغيبة
الغيبة لا تعني عدم الوجود، بل تعني خفاء الهوية مع حضور الشخص. ولهذا شبّهت الروايات غيبة المهدي بالشمس خلف السحاب، فهي موجودة تُعطي نورها ودفأها، لكنّ الناس لا يرونها مباشرة.
قال الإمام جعفر بن محمد (عليهما السلام):
« أما والله ليغيبن عنكم مهديكم حتى يقول الجاهل منكم: ما لله في آل محمد، ثم يقبل كالشهاب الثاقب فيملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما. …»
(الصدوق، كمال الدين).
إذن، الغيبة لا تعني الانعزال المطلق.
ثانياً: أدلة كونه يعيش بين الناس
1. الروايات الصريحة
ورد في النصوص أنه يمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم، ويعرفهم ولا يعرفونه:
عن الإمام الصادق (عليه السلام):
«يفقد الناس إمامهم، يشهد المواسم فيراهم ولا يرونه» (الغيبة للنعماني).
وهذا أوضح دليل على أنه يعيش بين الناس، لا في عزلة أو كهف.
2. الحكمة من الغيبة
لو كان الإمام في مكان منعزل بعيد عن المجتمع، لانتفت الحكمة من تشبيهه بالشمس وراء السحاب، إذ إن أثره يكون منقطعاً تماماً. لكن الروايات أكدت أن غيبته فيها حفظ للدين وإمداد للناس بالعلم والهداية خفية، وذلك لا يتحقق إلا إذا كان موجوداً بينهم.
3. اللقاءات الخاصة الموثقة
تاريخياً، نقل كثير من العلماء الثقات روايات عن لقاءات بعض المؤمنين بالإمام المهدي، سواء في مكة أو المدينة أو النجف أو غيرها. هذه اللقاءات وإن لم تكن عامة، لكنها تدل على أنّه حاضر في الأرض ويتواصل بشكل انتقائي.
4. البعد العقلي
العزلة الكاملة في صحراء أو جزيرة أو كهف لا تنسجم مع فلسفة الإمامة، التي تقتضي أن يكون الإمام مطّلعاً على أحوال أمته، حاملاً همومها، عارفاً بأوضاعها الاجتماعية والسياسية. وهذا لا يتم إلا إذا كان يعيش بين الناس، لكن مستور الهوية.
ثالثاً: بين الغيبة الكبرى والعيش بين الناس
في الغيبة الصغرى كان له سفراء خاصون.
في الغيبة الكبرى انتهى التمثيل المباشر، لكنه لم ينقطع عن الأرض وأهلها.
فالمعنى الواقعي: الإمام المهدي (عج) موجود في عالمنا، يسير بين الناس، يحضر الحج، يشارك في المجالس، يطّلع على أحوالنا، لكن لا نعرفه شخصياً.
الخاتمة
الخلاصة:
الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لا يعيش في عزلةٍ منعزلة عن البشر، بل يعيش بين الناس، يتنقّل في البلدان، يحضر المواسم، يرى الناس ويعرفهم وهم لا يعرفونه. غيبته ليست غياب جسد، بل غياب هوية. وهذا المعنى هو الذي يحفظ التوازن بين كون الإمام حاضراً مؤثراً في حياة الأمة، وبين كون شخصه غائباً عن التعرف المباشر لحكمة إلهية بالغة.
فهو شمس مشرقة، لكن وراء الغمام، ينتظر الله أن يأذن له بالظهور ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة