مقدّمة
تُعدّ الهداية من أهم وظائف الإمامة في الفكر الإسلامي، فهي ليست مجرد إرشاد نظري، بل رعاية ربّانية للخلق نحو كمالهم. ومع غيبة الإمام المهدي عليه السلام – بحسب الاعتقاد الإمامي – يثور التساؤل: كيف يمارس الإمام وظيفته في هداية الخلق وهو غائب عن الأنظار؟ وهل تنقطع بركة الإمامة بغيابه؟
أولاً: مفهوم الهداية في القرآن والسنّة
الهداية في القرآن على نوعين:
هداية الدلالة والإرشاد: كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى:52)، وهي بيان الطريق وإقامة الحجّة.
هداية الإيصال والتسديد: وهي الإمداد الخفي الذي يفتح القلوب لقبول الحق، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (القصص:56).
أئمة أهل البيت عليهم السلام يحملون هذين البعدين، فهم أدلّاء ظاهرون، ووسائط فيض باطنة. جاء في الزيارة الجامعة: «بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث»، وهو تعبير عن دورهم التكويني والتشريعي.
ثانياً: استمرار الهداية رغم الغيبة
رغم غياب الإمام المهدي عليه السلام عن الأنظار، لا يعني ذلك تعطيل دوره؛ بل يتحقق هداه عبر قنوات متعددة:
1. الهداية التشريعية عبر حفظ الدين
ورد في حديث النبي ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» (صحيح مسلم).
غيبة الإمام لا تعني غياب الشريعة، بل يقوم العلماء الربانيون مقامه في بيان الأحكام وحفظ المعارف. الإمام العسكري عليه السلام قال: «أما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه» (الاحتجاج للطبرسي).
إذن، نظام النيابة العامة هو مظهر من مظاهر هدايته التشريعية.
2. الهداية التكوينية والباطنية
الإمام – بحسب مدرسة أهل البيت – هو قلب العالم، وواسطة الفيض الإلهي، وبه يحفظ الله الكون.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت» (الكافي).
هذه الهداية غير محسوسة بالحواس لكنها واقعة: كإلهام قلوب المؤمنين، وتوفيق الساعين إلى الحق، وتدبير خفي لمسار التاريخ حتى تتهيأ الأرض لظهوره.
3. الهداية الفردية باللطف الخفي
كثير من المؤمنين يروون تجارب شخصية بلقاءات أو إلهامات أو تفريج كربات تُنسب إلى عناية الإمام. هذه الشواهد – وإن لم تكن دليلاً عقلياً قطعياً – تؤكد البعد الروحي لولايته.
ثالثاً: دور الغيبة في تعميق الهداية
غيبة الإمام ليست حرماناً، بل امتحاناً تربوياً:
تربي الأمة على الاجتهاد وتحمل المسؤولية.
تمنع الاعتياد على القيادة الظاهرة، فتجعل العلاقة مع الإمام علاقة إيمان لا تقليد.
تحفظ شخصه الشريف حتى يحين موعد الظهور العالمي لإقامة العدل.
رابعاً: الاستدلال العقلي
اللطف الإلهي: العقل يحكم بأن الله لا يترك خلقه بلا حجّة، لئلا تنقطع سلسلة الهداية.
حفظ النظام: بقاء الأرض بلا إمام يؤدي إلى فساد الكون، فيقتضي العقل وجوده ولو كان غائباً.
خامساً: شواهد روائية
قول النبي ﷺ: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية). ابن أبي عاصم في كتاب السنة ص489.
قول أمير المؤمنين عليه السلام: «اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة، إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً» (نهج البلاغة، الخطبة 147).
هذه النصوص تثبت أن وجود الإمام – سواء ظهر أو غاب – شرط لصحة النظام الديني والدنيوي.
خاتمة
هداية الإمام المهدي عليه السلام في النشأة الدنيوية تتجلى في:
حفظ الشريعة عبر العلماء.
التسديد الباطني بإلهام القلوب وتوفيق المؤمنين.
ضمان استمرار الفيض الإلهي في الكون.
فالإمام الغائب ليس غائباً عن الفعل، بل غائب عن العيون فقط؛ دوره ممتد في كل حركة خير وإشراق هداية حتى يوم ظهوره الموعود، حيث تنتقل الهداية من الباطن إلى العلن، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة