كان الشيعة في زمن الأئمَّة (عليهم السلام) يأخذون أحكام دينهم من الإمام، فمتى ما طرأت عليهم مسألة ذهبوا إليه أو أرسلوا من يصل إلى الإمام ويسأله عن مسائلهم؛ لكن في ظلِّ ظروف الغيبة لا يمكن لهم ذلك؛ إذ أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) غائب، فلذلك كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد أوجد عدَّة مهيِّئات تُهيِّئ الشيعة لقضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام)، فنلاحظ في رواية نقلها الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في كتابه أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان يُمهِّد لهم أمر ابنه ويُخبِرهم أنَّ الغيبة ستحصل:
عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وأنا أُريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجَّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزِل الغيث، وبه يُخرِج بركات الأرض».
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟
فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: «يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنَّه سميُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكنيّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأُمَّة مثل الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنَّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلَّا من ثبَّته الله (عزَّ وجلَّ) على القول بإمامته ووفَّقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه».
فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي فهل، من علامة يطمئنُّ إليها قلبي؟
فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح فقال: «أنا بقيَّة الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق».
فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلمَّا كان من الغد عدت إليه، فقلت له: يا ابن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت به عليَّ، فما السُّنَّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟
فقال: «طول الغيبة يا أحمد».
قلت: يا ابن رسول الله، وإنَّ غيبته لتطول؟
قال: «إي وربّي حتَّى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به ولا يبقى إلَّا من أخذ الله (عزَّ وجلَّ) عهده لولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه. يا أحمد بن إسحاق، هذا أمر من أمر الله، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في علّيين»(١).
فلذلك نجد أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) اتَّخذ عدَّة خطوات ليُمهِّدهم ويعدّهم للغيبة:
الخطوة الأولى: الرجوع إلى الإمام المهدي في حياة أبيه (عليه السلام):
ففي حديث طويل ومفصَّل جدّاً أنَّ واحداً من أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) كان عنده مجموعة من الأسئلة، فذهب مع أحمد بن إسحاق إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وكان أحمد بن إسحاق لديه أموال كثيرة جاء بها من بلاد إيران، فسأله عدَّة مسائل، فأرجعه الإمام العسكري (عليه السلام) إلى ولده القائم (عليه السلام)، والشاهد من هذا الحديث المبارك:
(فلمَّا انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إليَّ مولانا أبي محمّد (عليه السلام)، فقال: «ما جاء بك يا سعد؟».
فقلت: شوَّقني أحمد بن إسحاق على لقاء مولانا.
قال: «والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟».
قلت: على حالها يا مولاي.
قال: «فسَلْ قرَّة عيني» وأومأ إلى الغلام.
فقال لي الغلام: «سَلْ عمَّا بدا لك منها».
فقلت له: مولانا وابن مولانا إنّا روينا... الخ)(2).
الخطوة الثانية: الإرجاع إلى الوكلاء:
فجعل وكلاء يرتبط الشيعة بهم، وبيَّن أيضاً في بعض الموارد أنَّ بعض هؤلاء الوكلاء سيكونون وكلاء لابنه صاحب الزمان (عليه السلام)، فجَعْلُ الوكلاء دالٌّ على أنَّه ليس بالضرورة أن يرجعوا إلى الإمام وابنه في جميع شؤونهم؛ لأنَّه أجاز لهم الرجوع إلى هؤلاء الوكلاء المعتمدين الذين يُمثِّلونهم، فقد روى شيخ الطائفة الطوسي (قدّس سرّه) عن محمّد بن إسماعيل وعليِّ بن عبد الله الحسنيان قالا:
(دخلنا على أبي محمّد الحسن (عليه السلام) بسُرَّ من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، حتَّى دخل عليه بدر خادمه، فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: «هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن» في حديث طويل يسوقانه إلى أن ينتهي إلى أن قال الحسن (عليه السلام) لبدر: «فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري»، فما لبثنا إلَّا يسيراً حتَّى دخل عثمان، فقال له سيِّدنا أبو محمّد (عليه السلام): «امض يا عثمان، فإنَّك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال».
ثمّ ساق الحديث إلى أن قالا: ثمّ قلنا بأجمعنا: يا سيِّدنا، والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك، وأنَّه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى. قال: «نعم، واشهدوا على أنَّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأنَّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديكم»)(3).
الخطوة الثالثة: الإعداد الروحي والفكري:
فما جرى على الأئمَّة (عليهم السلام) هيَّأ الشيعة لاستقبال الوضع الجديد، بمعنى أنَّ الإمام عليَّ الهادي (عليه السلام) يحتجب عنهم في زمنه، وكذلك احتجب عنهم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لمدَّة زمنية معيَّنة، وقد دلَّت الأخبار على أنَّهم (عليهم السلام) بيَّنوا بشكل واضح بعض تفاصيل غيبته وما سيحصل للشيعة بعد غيابه، وما سيجري على الإمام المهدي (عليه السلام)، ومنه نعلم وجود إعداد فكري وذهني وإعداد نفسي وروحي للغيبة الكبرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) كمال الدين: ٣٨٤ و٣٨٥/ باب ٣٨/ ح ١.
(2) ومن أحبَّ أن يرجع للحديث بتمامه فليراجع كمال الدين: ٤٥٤ - ٤٦٥/ باب ٤٣/ ح ٢٢.
(3) الغيبة للطوسي: ٣٥٥ و٣٥٦/ ح ٣١٧.
معالم مهدوية ـ الشيخ نزار آل سنبل القطيفي.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة