رغم ما ورد في بعض الروايات أن مدة حكومته تمتد من خمس أو سبع سـنـوات إلـى 309 سنة (مــدة مكث أصـحـاب الـكـهـف) - والتي تشير في الواقع إلـى مراحل وعصور تلك الحكومة؛ حيث يستغرق تـبـلـورهـا وتشكيلها مـدة خـمـس أو سـبـع سـنـوات وعصر تكاملها 40 ّ سنة وعصرها الأخير أكثر من ثلاثمئة سنة.
لا بـد من التمعن - ولكن بغض النظر عن الروايات الإسلامية فمن المفروغّ منه أن ّ كل هذه المقدمات ليست من أجل عصر قصير المدة، بل قطعاً من أجل مدة طويلة تتناسب وجميع هذا التحمل والسعي والجهد!
بناء على جميع الأصعدة الفكرية والثقافية:
إن الأديان السماوية في الواقع كالماء الذي ينزل من السماء، فقطرات مياه المطر الشفافة - إن لم يكن الجو ملوثاً - نقية ولطيفة وحيوية وخالية من أي تلوث، فهي تحمل بشائر الحياة أينما حلت لتروي العطاشى وتمنحهم الروعة والجمال.
أمـا إن سقطت على أرض ملوثة فإنها تفقد صفاءها ونقاءَها بالتدريج، بـل تبدو أحـيـانّـا كريهة عفنة يهرب مـن رائحتها كـل من يــراهــا.
والأديان الـسـمـاويـة تـبـدو بـــادئ الأمر بـصـفـاء ونــقــاء تلك القطرات وإشـراقـة الشمس وجمال الربيع، وأثـر اتصالها بالأفكار المنحطة للجهال والأيدي الأثيمة للمغرضين والامتزاج بالعادات والتقاليد والأذواق والأمزجة الشخصية، تنحرف أحيانّا حتى تفقد بريقها وجاذبيتها بالمرة.
ولم يسلم من ذلك الدين الإسلامي هذا الدين الحيّ المفعم بالحيوية والـنـشـاط، والـذي نهض بتلك الأمة المتخلفة ليجعلها تتربع على ذروة المدنية، رغـم سلامة الـقـرآن ووجـود المخلصين من العلماء الذين يذبون عن حريم الدين ويضحون من أجل حفظ أصالة تعاليمه ومفاهيمه. ولكن لابـد ّ من الإذعان بـأن الكثير من مفاهيمه قـد مسخت لـدى الكثير مـن المسلمين، بحيث يمكن القول إن الإسلام الأصيل على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) بدا غريباً في أكثر الأوساط.
وقـد بلغت بعض المفاهيم من قبيل الزهد والتقوى والصبر والشهادة والانتظار والشفاعة والعبادة درجة من التحريف بحيث عـــادت غـريـبـة عــن هــذا الــديــن الــحــق. كـمـا آلــت أغـلـب الأحكام الإسلامية بالحيل الشرعية وغير الشرعية إلـى الاضمحلال كحكم الربا والفائز والذي لم يبق سوى اسمه.
كما اعترى النسيان البعض الآخر - كالهجرة والجهاد والشهادة - أو على الأقل اقتصرت على صيغتها التاريخية والمختصة بعهد معين في صدر الإسلام.
واختلط التوحيد بالشرك وعاشت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي تمثل الإسلام الأصيل على ضـوء: «إنـي تـارك فيكم الثقلين كـتـاب الـلـه وعــتــرتــي »(1)، الـغـربـة بـيـن أغـلـب الأوساط الإسلامية، وقـد ابتعد عنها الـنـاس بعد أن قذفت بأشنع التهم.
وسيقوم المصلح على غـرار البستاني الماهر الـذي يستأصل العلف من النبتة الأصيلة رغـم تعلقه بـهـا وصـعـوبـة فصله عـنـهـا، باستئصال كـل ّ ما علق بهذا الـديـن، وسيقطع كـل غصن أعـوج اتصل بشجرة الإسلام.
وسيزيل تلك التفاسير المنحرفة للدين ويقطع الأيدي الأثيمة التي تطاولت على حرمة مفاهيمه القيمة.
وخلاصة القول، فإنه ه سيعيد الإسلام إلى سابق عزه على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام).
إن إحــدى مـهـام الـمـهـدي (عليه السلام) تطهير الإسلام مـمـا عـلـق بـه من الغبار، وبعبارة أخرى إعادة بناء صرحه العملاق.
فـقـد كــان الـمـسـجـد آنـــذاك مــركــزاً لـكـافـة الأنشطة الـسـيـاسـيـة والعلمية والـثـقـافـيـة والاجتماعية والأخلاقية، وأصـبـح الـيـوم بـؤرة ما عادت طبيعية، للعجزة والعاطلين ووسيلة لقضاء الوقت، وسيعيده إلى سابق عهده، وسينفخ روح الحياة في جسد الجهاد، ويـطـهـر الـتـوحـيـد مـن كـافـة أنــواع الـشـرك، ويـفـسـر مـفـاهـيـم الـديـن بما يقضي على كـل انـحـراف وتـشـويـه، وسيطرح الآراء الشخصية الـمـفـروضـة عـلـى الـديـن، ويـبـعـده عـن صــدأ الــعــادات والـتـقـالـيـد وسينهض بالإسلام ويخرجه مـن حـالـة التقوقع الوطني والقومي ويـظـهـره بشكله العالمي الأصيل، وسيقطع تلك الأيدي الأثيمة التي دست الحيل الشرعية في الدين، ويعرض أحكامه وقوانينه كما ينبغي.
ويــبــدو أن سـلـسـلـة هـــذه الــتــغــيــيــرات عــلــى قـــدر مــن الـسـعـة والشمولية؛ بحيث عبرت عنها بعض الـروايـات الإسلامية بالدين الجديد.
روى صـــاحـــب كـــتـــاب إثـــبـــات الــــهــــداة حـــديـــثـــاً عـــن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إذا خرج القائم يقوم بأمر جديد، وكتاب جديد، وسنة جديدة، وقضاء جديد»(2).
ومن الواضح أن هذا الأمر الجديد والكتاب الجديد والقضاء الجديد لا يعني أنه يأتي بدين جديد، بل يخرج الإسلام من خضم مـا عـلـق بـه مـن أسـاطـيـر وخــرافــات وتـحـريـفـات وتـفـاسـيـر خـاطـئـة، فيبدو كأنه دين جديد وبناء حديث.
كـمـا أن الـكـتـاب الـجـديـد لا يعني نــزول كـتـاب جـديـد عليه من الـسـمـاء؛ ذلـك لأن الإمام قـائـم وحـافـظ لـلـديـن، لا أنــه نـبـي ويـأتـي بــكــتــاب جــديــد، بــل يـعـيـد الـــقـــرآن إلـــى ســابــق عــــزه فــيــبــدو كــأنــه كـتـاب جـديـد بعد أن يـطـرح عنه التحريفات المعنوية والتفاسير المشبوهة.
والـشـاهـد على ذلـك، وإضـافـة إلـى صـراحـة الـقـرآن فـي مسألة ختم النبوة في الآية 40 من سورة الأحزاب، والروايات التي أثبتت صـراحـة خـاتـمـيـة الـنـبـي (صلى الله عليه وآله)، بـعـض الأحاديث الـتـي صـرحـت بـأن سيرته سيرة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) والكتاب والسنة.
ســـأل عـبـد الــلــه بــن عــطــاء الإمام الـــصـــادق (عليه السلام) عــن سـيـرة المهدي (عليه السلام) فقال (عليه السلام): « يصنع ما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر الجاهلية ويستأنف الإسلام جديداً».
وورد في كتاب إثبات الهداة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «القائم من ولدي؛ اسمه اسمي وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسنته سنتي، يقيم الناس على شريعتي وطاعتي، ويدعوهم إلى كتاب ربي»(3).
وورد في كتاب «منتخب الأثر» عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «وأن الـثـانـي عـشـر مـن ولــدي يـغـيـب حـتـى لا يُــرى، ويـأتـي عـلـى أمـتـي بزمن لا يبقى من الإسلام إلاّ اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه فحينئذ يـأذن الله لـه تـبـارك وتعالى بـالـخـروج فيظهر الإسلام به ويجدده»(4).
وهذه الأخبار صريحة بما يغنينا عن أي توضيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد هـذا الحديـث فـي عـدة مصـادر روائيـة ألبنـاء العامـة، وللوقـوف علـى المزيـد راجـع كتـاب «القـرآن والحديث».
(2) إثبات الهداة، ج7 ،ص83.
(3) إثبات الهداة، ج7 ،ص83.
(4) منتخب الأثر، ص98.
الحكومة الإمام المهدي (عليه السلام) المديدة
المصدر: الحكومة العالمية للإمام المهدي عليه السلام، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ص246-250.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة