الشيخ علي آل محسن
قبل وفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري آخر سفراء مولانا الإمام المهدي المنتظر بستة أيام، كتب الإمام المهدي توقيعًا للشيعة، بيَّن فيه الإمام عليه السلام أن السمري سيُتوفى بعد ستة أيام، وستنقطع السفارة، وستبدأ بعد وفاة السمري الغيبة الثانية الكبرى، التي لا يلتقي فيها الإمام بأحد من الشيعة إلا بخواص مواليه فقط.
وصية الإمام المنتظر للشيعة:
جاء في التوقيع الذي أشرنا إليه وصية عامة لجميع الشيعة، فقد ورد فيه قول الإمام : «وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألا إنه فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفترٍ»، والمراد بالمشاهدة هنا ليست مجرد رؤية الإمام في عصر الغيبة، فإن كثيراً من العلماء والصلحاء الصادقين كما سيأتي رأوا الإمام المهدي عليه السلام في عصر الغيبة، وأخبروا بذلك، وهذا لا محذور فيه، ولكن المراد من المشاهدة: النيابة والسفارة.
السفراء في زمن الغيبة الصغرى:
غاب الإمام المهدي غيبتين: غيبة صغرى، وغيبة كبرى. والغيبة الصغرى بدأت منذ أن تولي الإمام منصب الإمامة سنة 260هـ، واستمرت حتى سنة 329هـ، وكان للإمام فيها أربعة سفراء، وهم عثمان بن سعيد العمري، ثم ابنه محمد بن عثمان العمري، ثم الحسين بن روح، ثم علي بن محمد السمري، وهؤلاء كانوا نواباً له عليه السلام، ووسطاء بينه وبين شيعته، وكان الشيعة يرفعون كتبهم المشتملة على قضاياهم ومسائلهم إلى هؤلاء السفراء الأربعة الذين كانوا محل ثقة واعتماد عند الإمام ، ثم يقوم السفراء الأربعة بإيصال تلك الكتب والمسائل إلى الإمام ، ويتلقون منه جواباتها، ولكن بعد وفاة السفير الرابع سنة 329هـ انتهى زمن السفارة، وبدأ زمان الغيبة الكبرى التي خلت من وجود سفراء خاصين للإمام ، وإنما كان هناك نواب عامون؛ وهم فقهاء الطائفة، ومراجع التقليد.
ادّعاء السفارة في زمن الغيبة الكبرى:
والمتأمل في التوقيع الذي افتتحنا به المقال، يلاحظ أن الإمام عليه السلام قال: «سيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة»، ولم يقل: «إن من سيدّعي المشاهدة هو من الشيعة»، وفي ذلك دلالة على أن من يدّعي النيابة والسفارة في زمن الغيبة الكبرى محكوم عليه بأنه خارج عن مذهب الشيعة، وقد أوضح الإمام تكليفَ الشيعة في حال ادّعاء السفارة بقوله: «ألا أنه فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر»، ومنه يتضح أن تكليف الشيعة هو عدم تصديق ذلك المدعي، وعدم اتباعه، والحكم عليه بأنه كذاب على الإمام، مفتر في ادّعاء السفارة.
الفرق بين ادّعاء السفارة وادعاء الرؤية:
ذكرنا آنفاً أن هناك علماء وصلحاء كثيرين ادّعوا رؤية الإمام ، وقد ذكرت قصصهم في كتب الشيعة، حتى إن الميرزا النوري الطبرسي قدس سره كتب كتابًا فيمن رأى الإمام في عصر الغيبة، أسماه (جنة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة)، ذكر فيه روايات وقصصاً كثيرة عن علماء وصلحاء من الشيعة، وقع بعضهم في مآزق وشدائد، التقوا بالإمام ورأوه، فخلصهم الإمام عليه السلام من تلك الشدائد والمحن، وهؤلاء لا يجوز تكذيبهم والإنكار عليهم؛ لكونهم ثقات، ولأن هذا نقل متواتر عن أشخاص كثيرين يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب.
وبعض من رأى الإمام عليه السلام لم يدّع الرؤية، وإنما نقلها آخرون، كما حدث للشيخ مرتضى الأنصاري قدس الله نفسه عندما توفي صاحب الجواهر قدس سره الذي كان مرجعًا للشيعة في وقته، فأتى علماء الشيعة إلى الشيخ مرتضى الأنصاري، ورشحوه للمرجعية العامة، وبعدما ألحوا عليه في ذلك، ذكر لهم أنه لن يقبل أن يكون مرجعاً حتى يأتي إليه صاحب الزمان ، ويخبره بأنه مجتهد. وبينما كان الشيخ الأنصاري جالسًا في مجلس بحثه في أحد الأيام، إذا دخل عليهم رجل غريب عليه بهاء وجلالة، فقال للشيخ الأنصاري: لو أن رجلاً مُسخ، زوجته تعتد عدة الوفاة أم عدة الطلاق؟ فأطرق الشيخ الأنصاري مدة يفكر في المسألة، ثم قال: إن كان قد مُسخ حجرًا فتعتد عدة الوفاة، وأما إذا مسخ حيوانًا فتعتد عدة الطلاق. فقال له الرجل: أنت مجتهد (ثلاثاً)، فتعجب جميع الحاضرين من ذلك، ولما خرج التفت الشيخ أن هذه المسألة مسألة غير عادية، ولا يمكن أن يسألها رجل عامي، فطلب إحضار ذلك الرجل، فلما لحق به بعضهم لم يجدوه، فأدركوا أنه صاحب الزمان . (راجع تفاصيل القصة في جنة المأوى: 380).
والشيخ الأنصاري قدس سره لم يرو هذه الحادثة للناس، ولكن الحاضرين نقلوها لغيرهم، وبهذا يتبين أن رؤية الإمام لا مانع منها في عصر الغيبة الكبرى، ولا يجب تكذيبها وتكذيب نقلتها، وإنما يجب تكذيب من يدعى السفارة والنيابة كائنًا من كان.
شبهات واشتباهات في السفارة:
هناك أمور متعلقة بالإمام المهدي شبيهة بموضوع السفارة مع أنها لا تندرج تحت هذا العنوان.
منها: ما ورد في الأحاديث من الإخبار بخروج اليماني أو خروج شعيب بن صالح اللذين سيكونان تحت لواء الإمام المهدي ، أو خروج السفياني الذي سيؤسس حركة مضادة لحركة الإمام المهدي .
وبعض الناس يحلو لهم تطبيق ما ورد في هذه الروايات على بعض الأشخاص المعاصرين في هذا الزمان، مع أن كل ما يقال في ذلك ما هو ظنون مجردة، ولهذا لا ينبغي البناء على هذه الاحتمالات الظنية في هذه الأمور المهمة، بل لا بد من الاعتماد على الشواهد والدلائل القطعية والجزمية؛ فليس كل من وُلد في اليمن فهو اليماني المقصود في الروايات، وليس كل من وُلد في خراسان فهو الخراساني المعني في الروايات.
لذلك وقع بعضهم في مثل هذا الخطأ، كما حصل للشيخ المجلسي قدس سره على ما نقله عنه السيد نعمة الله الجزائري قدس سره في كتابه الأنوار النعمانية، حينما طبق الدولة الممهدة للإمام المهدي المذكورة في الروايات على الدولة الصفوية؛ حيث عقب على الحديث المروي عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يقوموا، ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء»، فقال: «إنه لا يخفى على أهل البصائر أنه لم يخرج من المشرق سوى أرباب السلسلة الصفوية، وهو الشاه إسماعيل أعلى الله مقامه، وقوله: «لا يدفعونها إلا إلى صاحبكم» المراد به القائم عليه السلام، فيكون في هذا الحديث إشارة إلى اتصال دولة الصفوية بدولة المهدي عليه السلام، فهم الذين يسلمون الملك له عند نزوله بلا نزاع وجدال. (الأنوار النعمانية 2/77).
وكما هو معلوم، فإن الدولة الصفوية ذهبت وانقرضت، ومضى حكامها، ولم يسلموا الملك لصاحب الزمان عليه السلام، وبهذا تبين أن هذا التطبيق وأمثاله غير صحيح.
بل من الممكن أحيانًا توافر بعض القرائن التي ربما تكون قوية في هذا الموضوع، ولكن مع ذلك لا يمكن اعتبارها قرائن قطعية وجزمية.
وقد نُقل في زمان الشيخ عبد الله المامقاني قدس سره المتوفى سنة 1351هـ أن جماعة من الشيعة ذهبوا إلى زيارة السيدة زينب ، وفي أثناء ذهابهم إلى الشام نزلوا في إحدى البوادي عند رجل اسمه عَنبسة، وقد وُلد له مولود في تلك الأثناء سماه عثمان، وهو اسم موافق لاسم السفياني كما ورد في بعض الروايات، وكان هذا المولود الجديد قد ظهرت منه بعض الأمور العجيبة، فقد كان يستطيع المشي وهو ابن أيام معدودة. فلما ذُكر ذلك للشيخ المامقاني سجد لله شكراً، فلما سُئل عن ذلك، قال: إنما سجدت لله شكراً لأني في زمان قريب من ظهور صاحب العصر والزمان ، وقد مضى على وفاة الشيخ المامقاني أكثر من ثمانين سنة، ولم يظهر هذا السفياني حتى الآن.
ومن كل ذلك يتبين أن توافر القرائن القوية كتشابه الأسماء، وامتلاك المواهب الخاصة؛ ليست أدلة قطعية كافية للبت في موضوع كهذا، والحكم بانطباق ما ورد في الروايات على أولئك الأشخاص، ولذلك ينبغي على كشيعة التحرز مي أمثال هذه التطبيقات، وعدم التعجل فيها، فلا يحسن أن طبق اليماني على أشخاص نحبهم، أو نطبق السفياني على رجل نبغضه.
جذور ادّعاء السفارة:
إن الوارد في توقيع الإمام الذي افتتحنا به البحث هو التحذير من مدعي السفارة في زمان الغيبة؛ لأن دعوى السفارة يمكن أن تشكل مشكلة كبيرة وخطيرة على الشيعة؛ لما في السفارة الحقيقية من شرف كبير في الدنيا والآخرة، يغري بعض من يحبون الزعامة والرئاسة والوجاهة لأن يدعوها بغير حق، وبذلك يتمكنون من العبث بعقائد الشيعة، وأحكامهم، ودمائهم، وأعراضهم، وأموالهم.
والغريب أن التاريخ يحدثنا أنه ظهر أناس يدَّعون السفارة أو الوكالة في عصور أئمة أهل البيت ، حتى صدرت توقيعات منهم ورَدَ فيها لعن بعض هؤلاء، الذين كان من ضمنهم محمد بن نصير النميري الذي ادّعى بعد وفاة الإمام العسكري البابية بدل محمد بن عثمان العمري، ثم ادّعى في الإمام عليه السلام الربوبية، وهكذا تدرج في الادعاءات، إلى أن حلل المحرمات، وحرم المحللات.
ومن عجائب ما نُقل عنه ما ذكره الشيخ الطوسي قدس سره في كتاب الغيبة: 244، من أن هذا الرجل أباح اللواط، وعلل ذلك بأنه من التواضع والتذلل والإخبات في المفعول به، وأنه للفاعل من الطيبات، فهو بذلك تدرج في الانحلال عن الدين بعد ادعائه البابية حتى كوَّن له فرقة ضالة خاصة به سُمّيت: النصيرية.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة