ولا بدَّ من التفريق بين شرط الظهور وعلاماته، فالشرط هو توقُّف الظهور على تحقُّقه، وعلاقته بالظهور علاقة العلَّة بالمعلول، والسبب بالمسبَّب، والشرط بالنتيجة.
أي دون تحقُّق الشرط يتعذَّر حينئذٍ تحقُّق الظهور.
إنَّ الظهور أمرٌ أراده الله تعالى أنْ يجري بحسب الأسباب الطبيعيَّة بعيداً عن الإعجاز الذي يُلقي معه أيّ احتمالٍ أو سببٍ طبيعي يمكن تحصيله ليتحصَّل بذلك الظهور..، تماماً كما أراد تعالى أنْ تجري دعوات الأنبياء والمصلحين حسب المقتضيات الطبيعيَّة ليكون ذلك أبلغ في التمحيص والامتحان، وإذا تدخَّلت المعجزة في دعوات الأنبياء توقَّفت معها جهودهم، وانتهى بذلك التمحيص والاختبار الذي يتعرَّض إليه أتباعهم أو مناوؤهم، لذا فإنَّ الحكمة في الدعوات الإصلاحيَّة للرسالات السماويَّة لا بدَّ أنْ تتَّصف بالاختبارات المهمَّة لأُمَّة ذلك النبيِّ أو أتباع ذلك المصلح، وهكذا هي دعوة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فإنَّها حصيلة رسالات الأنبياء، ودعاوى الإصلاح جميعاً معها، فلا بدَّ من أنْ تجري حسب المجريات الطبيعيَّة والأسباب المتعارفة..، نعم لا يمكننا أنْ نُنكِر ما للإعجاز الإلهي من مدخليَّةٍ في تحقُّق الظهور، إلَّا أنَّه بنحو جزء العلَّة وليس العلَّة التامَّة الكاملة.
فالشرط هو ما يتوقَّف في تحقُّقه تحقُّق الظهور، ودونه فلا يمكن أنْ يتحقَّق أيُّ مظهرٍ من مظاهره.
إنَّ شروط الظهور تتعاضد لتجتمع كوحدةٍ متكاملةٍ لا تتخلَّف في إنجاح الظهور وتحقُّقه، وأهمُّها:
أوَّلاً: وجود القائد المصلح الذي سيملأها قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً، وهذا القائد يجب أنْ تتحقَّق فيه مواصفات القيادة العالميَّة، وهي لا يمكن إيجادها إلَّا فيمن اختاره الله واصطفاه، ولا بدَّ من كونه معصوماً منصوصاً عليه، وكلُّ ذلك لا يتحقَّق إلَّا في شخص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي حاز على كلِّ هذه الشرائط والخصوصيَّات، وبدون ذلك فلا يتسنَّى لأيِّ قائدٍ مصلحٍ أنْ يقوم بمهمَّة الإصلاح العالمي الذي يقود العالم إلى شواطئ العدل والأمان، ويشيع بأُطروحته السلام في ربوع الأرض المقهورة بالظلم والجور والعدوان.
ثانياً: الأُطروحة الإلهيَّة، ومعنى ذلك: أنْ تكون هناك أُطروحة إصلاح عالميَّة إلهيَّة يتكفَّلها طرحٌ سماوي يتيح للعدل أنْ ينتشر في ربوع الأرض، ويستبدل الظلم بالعدل، والجور بالقسط، ويُحقِّق السلام للجميع، وأنْ يعيش العالم تحت مظلَّةٍ واحدةٍ، وهي مظلَّة الإسلام الذي يتعهَّد بصياغة نظام عالميٍ جديد مبنيٍّ على العدل والسلام، ويُبعِد كلَّ أُطروحةٍ وضعيَّةٍ من شأنها تعزيز مفاهيم السطوة والنزاع من أجل البقاء على حساب كلِّ القِيَم، وبذلك ستغيب مظاهر العنف والقوَّة، وتحلُّ محلَّها مظاهر الحبِّ والوئام بين بني البشر جميعاً.
وبالتأكيد فإنَّ ذلك لا تُحقِّقه أيَّة أُطروحةٍ مهما بلغت من التكامل في تحقيق السلام عدا شعاراتها التي ترفعها لاستقطاب مناصرة الآخرين، حتَّى إنَّ كثيراً من هذه الأُطروحات لا تمتلك سوى (لافتات السلام) لتختفي وراءها من أجل تحقيق أغراضها الخاصَّة، وتبقى شعارات العدل مرفوعةً دون أدنى تطبيق.
ومن خلال طرح مفاهيم المهدويَّة واليوم الموعود، فإنَّنا نجد أنَّ أُطروحة النظام العالمي الجديد الذي يُحقّق معه العدل متوفِّراً في هذه الأُطروحة الإلهيَّة، وذلك لتعهُّدها إلى معالجة مواطن الخلل الذي يعتري الرؤية الوضعيَّة لأيَّة أُطروحة أُخرى، والعمل على الحدِّ من مظاهر النزاع المسلَّح والتنافس غير المشروع، والسعي لصهر أيَّة رؤيةٍ إصلاحيَّة في بوتقتها للخروج بصيغة إصلاح موحَّد يضمنُ للجميع العيش بسلام.
ثالثاً: تفشِّي مظاهر الجور والظلم والعدوان وشيوع مفاهيمها، فالأُطروحة الإلهيَّة التي أشرنا إلى شرط توفُّرها لتحقّق الظهور مبنيَّةٌ على أساس حالة العنف والعدوان، وغياب لغة الحوار التي من شأنها أنْ تُخفِّف من حدَّة هذا الصراع المسلَّح. فالظلم الذي يُشاع في كلِّ الأرض سيكون موجباً لأنْ يتطلَّع الجميع للمصلح العالمي الذي يملأها قسطاً وعدلاً، وستتفاقم المشاكل الإنسانيَّة نتيجةً للتنافس الذي يسود مفاهيم الدول أو المجموعات أو التكتُّلات أو المنظَّمات أو حتَّى على مستوى الأفراد، وبالتأكيد فإنَّ ذلك سيدفع الجميع إلى انتهاج سياسة العنف والإبادة - كما هو معروفٌ اليوم - للحصول على أكبر قدرٍ ممكن من المصالح غير المشروعة، وستكون المبادئ والقِيَم في حالة تسيُّبٍ يتيحُ للجميع ارتكاب كلِّ ما هو محظور، وممارسة كلِّ ما هو غير مشروع تنفيذاً لتوجُّهات المصالح الخاصَّة والشخصيَّة دون مراعاة أدنى قِيَم الإنسانيَّة، وسيكون الإنسان أداة تنفيذ للرغبات الطائشة والمشتهيات الجامحة التي تُطيح بأيَّة أُطروحة يرفعها البعض من أجل السلام، وبذلك ستكون الحاجة إلى الإصلاح هدف الجميع، وهم ينشدون الإنسانيَّة التي سرقتها أُطروحات الأنظمة الوضعيَّة المتاجرة بإنسانيَّة الإنسان، وسيلجأ الجميع إلى أُطروحة إلهيَّة تضمن لهم العدل بدل أُطروحة الجور، والإخاء بدل العنف والعدوان، وهذه الأُطروحة المنشودة هي الأُطروحة المهدويَّة الهادفة للعدل والسلام.
رابعاً: تحقُّق الأنصار، وهذا شرطٌ لا بدَّ من توفُّره لليوم الموعود، إذ إنَّ ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) منوطٌ بمقدار الأنصار المبايعين له على السلم والموت، فتحقُّق أيِّ مشروع إصلاحي لا بدَّ أنْ يكون له من الأنصار ما يتيح له النجاح، فكيف بمشروع إصلاحي ثوري يقوم على مبدأ التغيير لأكثر مفاصل الحياة، فضلاً عن تغيير لأكثر المفاهيم المتعارفة لدى الجميع، والخروج على العالم بأُطروحاتٍ إصلاحيَّةٍ ثوريَّةٍ تكفل معها قلب القِيَم والمفاهيم التي راجت لدى الجميع، ومعلومٌ أنَّ ذلك سيكون بمثابة صدمة لكلِّ الحركات المنكفئة على مفاهيمها الخاصَّة التي ترتطمُ بالقِيَم الإنسانيَّة المعهودة، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ مواجهةً تحدث بين أتباع هذه الأُطروحات الوضعيَّة وبين أنصار الأُطروحة المهدويَّة التي من شأنها أنْ تُحقِّق نصراً كاسحاً على جميع الجبهات.
إذن فتحقُّق الأنصار الذين يتمتَّعون بمواصفاتٍ خاصَّة رهينٌ بإنجاح أُطروحة الظهور، وبدونها فستعاني هذه الأُطروحة من الصعوبات التي تودي بها، وسهولة التصدِّي لها واستئصالها، وبذلك فلا يمكن تحقُّق هذا الأمل المنشود مع غياب الذين يستوعبون التغييرات الإصلاحيَّة التي تأتي بها أُطروحة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
خامساً: القواعد الشعبيَّة المناصرة، وهي غير الأنصار المشار إليهم آنفاً، فإنَّ أنصار الإمام (عجَّل الله فرجه) الثلاثمائة والثلاثة عشر - كما أكَّدتها روايات الظهور - هم القيادات العالميَّة التي تقود حركة الإمام (عجَّل الله فرجه)، وهذا لا يتحقَّق إلَّا بوجود قواعد شعبيَّة تترقَّبُ الحدث الجديد، ومعلومٌ أنَّ هذه القواعد الشعبيَّة قد أُعدَّت سلفاً لاستيعاب الأُطروحة المهدويَّة بمقدارٍ يضمن معه تلقِّي هذه الأُطروحة، وهذا لا يتأتَّى إلَّا بخلق قواعد شعبيَّة تتعاطى مع الأخبار المهدويَّة المبثوثة في صحاح الفريقين، أي التثقيف المسبق للقواعد الشعبيَّة التي ترنو إلى ذلك اليوم الموعود سيجد ضرورته حيال تعزيز الفكرة المهدويَّة المنشودة، ومعلوم أنَّ الشيعة الإماميَّة ستُشكِّل النسبة الكبرى، بل النسبة كلَّها من أجل تعبئتها لهذا اليوم المنشود، والسبب في ذلك كما نرى:
١ - أنَّ الشيعة الإماميَّة أكثر قبولاً لأُطروحة التغيير المهدوي، وذلك للمعاناة التي لاقتها الشيعة الإماميَّة على طول امتداد تاريخهم المضرَّج بالدماء، وإبعادهم عن مراكز الحكم سيخلق لديهم وجداناً مقهوراً، وضميراً مغلوباً على أمره ينصاعُ دائماً لسطوة الحاكم وقهره، وهذا الشعور من شأنه أنْ يُعزِّز التفاؤل باليوم الموعود، اليوم الذي يعمُّ العدل به ربوع الأرض، ويعيش الفرد الشيعي فرداً غير مهمَّش أو ضميراً معذَّباً مقهوراً، بل ستكون له الكلمة كما ستكون له المكانة في هذه الأُطروحة الإلهيَّة، من هنا نجد أنَّ الوجدان الشيعي سيكون متحفِّزاً لهذا التغيير الموعود، وسيكون معبَّئاً بشعوره المقهور إلى تبنِّي أُطروحة الإنقاذ.
وهذا بعكس غير الشيعي، إذ إنَّ الحكومات المتعاقبة منذ السقيفة حتَّى الآن ترعرعت في الوسط الحاكم الذي يرى لنفسه الأولويَّة في الحكم والتسلُّط، وسيكون الفرد غير الشيعي فرداً حاكماً حتَّى لو لم يكن في خضمِّ القيادات الحاكمة، فمجرَّد انتمائه لهذه الطائفة يرى أنَّ الحقَّ له في الأولويَّة بكلِّ شيء، فالسطوة والغلبة والقوَّة والحكم له، وسيكون غيره ممتهناً مهمَّشاً، وبالتأكيد فإنَّ الأُطروحة المهدويَّة ستعمل على إقصاء هذه الحالة الموروثة والتقليديَّة السلطويَّة، وستتعاطى مع الحكم على أساس العدل، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ هؤلاء سيجدون أنفسهم مستبعدين عن الموروث الحاكمي، وسيكون أحدهم تابعاً بدل أنْ يكون متبوعاً، فكيف والحال هذه يسعى إلى تحقُّق الأُطروحة المهدويَّة التي من شأنها إقصاء مظاهر التسلُّط والقوَّة التي ينتمي إليها؟!
إذن فسيكون الفرد الشيعي ساعياً وراء هذه الأُطروحة المهدويَّة الإصلاحيَّة، كونها أُطروحة إنقاذ وليس بديلاً لحكومةٍ مغتصبةٍ فقط، بل هي ظاهرة إنسانيَّة يتطلَّع إليها الفرد المعذَّب بسبب الإقصاء والتهميش والاستبعاد في حين غيره سيكون ساعياً إلى التصدِّي لها بالرغم من أنَّ صحاح الفريقين تُؤكِّد لابدّيَّة اليوم الموعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : علامات الظهور جدلية صراع أم تحديات مستقبل؟ ـ تأليف : السيد محمد علي الحلو (رحمه الله).
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة