قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
والسؤال: هل نحن مكلفون بموجب هذا الحديث بمعرفة الإمام ذاتاً، بحيث لو طلب من أحدنا الإشارة إليه وتعيينه وتحديده من بين مجموعة من الناس لاستطاع، أم إنا مكلفون بمعرفة صفته؟
أم أنه يكفينا مجرد معرفة كونه حياً وموجوداً كحجة حتّى لو كان غائباً؟
الجواب:
يُعد هذا الحديث متواتراً بين جميع الفرق الإسلاميّة، وقد روى الحديث أقطاب المحدّثين، فمن الشيعة: الكليني في الكافي، والصدوق في كمال الدين، والحميري في قرب الإسناد، والصفار في بصائر الدرجات، ومن أهل السنة منهم: البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود الطيالسي والطبراني والحاكم والحسكاني وأبو نعيم والبيهقي والنووي والهيثمي وابن كثير.
ولعل البعض يوجه الحديث إلى كل إمام بر أو فاجر، فيشمل بذلك الحاكم الظالم، والسلطان الجائر، والرئيس السفيه وغير ذلك، ولا يعني هذا مقصود الشارع من المعرفة والاتباع، فالعقل لا يحكم بوجوب معرفة الظالم والجائر والسفيه، إذ المعرفة هداية إيصالية توصل عن طريقها إلى الحق، فضلاً عن كونها هداية إرائية تُري الحق والصلاح بهدايتهم إليه، ومن كان هذا شأنه من الظلم والجور فهو غير حقيق بأن يوصل الناس إلى الصلاح لفساده، وفاقدُ الشيء لا يعطيه.
إذن لا يمكن أن يقنعنا الآخرون بإعراضهم عن أهل البيت (عليهم السلام) ليوصلهم الظالم إلى الحق، كما حدث في دعوى إمامة بني أمية وبني العبّاس، ومعلوم أن الذي أباح المدينة ورمى الكعبة بالمنجنيق وقتل سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يكون هادياً مهدياً، ولا يحق لمن مزق القرآن وجعله غرضاً لرمي السهام كالوليد أن يؤم الناس للصلاح، وهكذا الذي قتل الهاشميين بشكل جماعي كالمنصور العبّاسي والذين أحيوا الطرب واللهو في مجالس المجون من العباسيين لا يصدق أن يوصلوا الناس إلى الحق والصلاح، فدعوى وجوب معرفتهم باطلة، إلّا إذا اتصف الإمام بالصلاح والهدى، وسدد بالعصمة والتقوى، وأطاع الله في كل أحواله فهو حقيقٌ به أن يوصل أتباعه إلى منهج الرشاد ويهديهم إلى السداد.
وما يؤيد أن يكون الإمام الذي تجب معرفته، إمام هدى، ما رواه ابن بابويه بسنده إلى أبي جعفر (عليه السلام): (من مات لا يعرف إمامه مات ميتةً جاهلية كفر ونفاق وضلال).(1)
وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) بنفس الألفاظ، إلّا أن بدل لفظ (نفاق) قال: (كفر وشرك وضلال).(2)
ولا يختلف اثنان أن ولاة الجور وسلاطين الظلم، هم أهل ضلال، وذوو نفاق بإظهارهم الإيمان واستبطانهم الكفر، وإظهارهم التقوى وكتمانهم الفسوق، كما هو في نفاق معاوية بتظاهره بالتقوى. ومثله مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، وخلاف ذلك في تهتك أكثر ولاة الجور من الأمويين حيث لم يحتشموا أحداً من العالمين فاستباحوا كل محرم وهتكوا ستر كل ما ينبغي ستره، حتّى أعلنوا الفجور كما في أحوال الوليد بن عبد الملك ويزيد بن الوليد وأمثالهم من أهل العبث والمجون. ولا يفوتك ما رواه السيوطي في تاريخ الخلفاء، وأمثاله عن ملاحم هؤلاء الأمويين ومثلهم بنو العبّاس الذين ارتكبوا كل محظور، وأباحوا كل محذور. وتاريخ آل أبي سفيان وأيام بني مروان ووقائع بني العبّاس شاهدةٌ على ذلك.
من هنا نستخلص أن يكون الإمام إمام هدى متصفاً بالصلاح، مسدداً بالعصمة، منصوصاً عليه من قبل الله تعالى، وهو مذهب الإمامية واتفاقهم بقضّهم وقَضيضهم.
إذن يجب معرفة الإمام لغرض اتِّباعه، ولا تكفي معرفة صفته دون الاهتداء إلى ذاته، والوقوف عليه بنحو عدم الاشتراك مع غيره، لأن الهداية الإيصالية لا تتم بمجهول، ولا تخضع في كمالاتها لمبهم، ما لم يتم تشخيصه ومعرفته ذاتاً، لا صفةً.
وإلى هذا أشار الصادق (عليه السلام) إلى وجوب التحري عن ذات الإمام والحث على معرفة شخصه دون الاكتفاء بالوقوف على صفته أو بالسماع بأمره فقط.
فقد روى ابن بابويه بسنده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلحك الله، بلغنا شكواك فأشفقنا، فلو أعلمتنا من بعدك؟ فقال: (إن عليّاً (عليه السلام) كان عالماً، والعلمُ يتوارث، ولا يهلكُ عالمٌ إلّا بقي من بعده من يعلمُ مثل علمه أو ما شاء الله)، قلتُ: أفيسع الناس - إذا مات العالم - أن لا يعرفوا الذي بعده؟
فقال: (أما أهل البلدة فلا - يعني المدينة - وأما غيرهم من البلدان فقدر مسيرهم، إن الله يقول: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(3)).
قال: قلتُ: أرأيت من مات في ذلك؟
قال: (بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثمّ أدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله).
قال: قلتُ: فإذا قدموا بأي شيء يعرفون صاحبهم؟
قال: يُعطى السكينة والوقار والهيبة.(4)
فتشخيص الإمام بمعرفته بالسكينة والوقار والهيبة دلالة على وجوب معرفة الإمام ذاتاً.
وعن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: قلتُ: إذا هلك الإمامُ فبلغ قوماً ليس بحضرتهم؟
قال: (يخرجون كلهم أو يكفيهم أن يخرج بعضهم؟ إن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ))، قال: (هؤلاء المقيمون في سعةٍ حتّى يرجع إليهم أصحابهم).(5)
فقوله (عليه السلام): (في سعةٍ) مشعرٌ على عدم قبول أعمال المكلفين دون معرفة الإمام، والذي في سعةٍ هو في عذر حتى يعرف الإمام، إلّا أنه مغيى بغاية رجوع الرسول المتفحص عن خبر الإمام، فإذا رجع إليهم وعرفوا أمر الإمام فقد ارتفعت عنهم المعذرية وخوطبوا بالتكليف.
وفي نفس المعنى قال الرواي: إن بلغنا وفاة الإمام، كيف نصنع؟
قال (عليه السلام): (عليكم النفير).
قلت: النفير جميعاً؟
قال: (إن الله يقول: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)) قلت: نفرنا، فمات بعضهم في الطريق؟
قال: فقال: (إن الله يقول: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً))(6) فوجوب التفحص عن الإمام تعذيريٌ حتّى يقفوا على خبر الإمام (عليه السلام)، وإدراك أحدهم الموت وهو في حال التفحص معذور، لأن التفحص بذاته تكليف، وهو مقدمة واجب - على القول بها - يوصل إلى وجوب معرفة الإمام بذاته.
والاقتصار على معرفة الوصف دون معرفة الذات قد يوجب الوقوع في الاشتباه المؤدي إلى الخطأ في تشخيص الإمام، وهو في الشرك سواء.
فعن الإمام جعفر الصادق عن أبيه (عليهما السلام) قال: (من أشرك مع إمام - إمامتُه من عند الله - من ليس إمامتُه من عند الله، كان مشركاً بالله).(7)
ومعنى ذلك أن اتباع غير إمام الحق يوجب عبادة من يعبده من دون الله، وبذلك فسيكون التابع لغير إمام - جزافاً - عابداً لغير الله تعالى أو مشركاً بعبادته سبحانه - كما يستظهر من الرواية -.
هذا في شأن الإمام الحاضر، أما الإمام في زمن الغيبة فيجب معرفته بذاته وخصوصياته، من حيث كونه موجوداً حياً منتسباً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والذي اسمه (محمّد) بن الحسن العسكري بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ السجاد بن الحسين الشهيد بن عليّ بن أبي طالب، بن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فاطمة عليها وعليهم من الله التحيات الزاكيات.
هذا ما يقتضي معرفة الإمام المهدي ذاتاً في غيبته.
أما ما يخص الإمام المهدي (عليه السلام) فمعرفته بعد ظهوره تتم من خلال معرفة علامات ظهوره ليتسنى لنا تشخيصه ذاتاً، وقد ذكرت علامات الظهور في محلها وتكفلت بها مطولات خاصة في هذا الموضوع، إلّا أن هناك ملاحظات لا بدّ من مراعاتها في هذا الشأن.
الملاحظة الأولى:
إن محاولة إيجاد مصاديق لشخصيات علامات الظهور غير دقيقة وكذلك التشبث ببعض الحوادث وكونها من علامات الظهور بشكل قطعي غير صحيح، نعم إمكانية إيجاد احتمالات مؤيدة بقرائن وشواهد تؤيد انطباق هذه العلامة على ذلك المصداق ومع هذا عدم القطع بذلك، وخلاصة الملاحظة: هو عدم التسرع في الحكم لئلا يؤثر ذلك على صدقية تعاطينا مع علامات الظهور.
الملاحظة الثانية:
الحث على معرفة علامات الظهور وذلك يساعد على بناء الشخصية التكاملية، ولتنمية الشعور بالأمل والابتعاد عن حالة الإحباط واليأس جراء ما يعانيه الفرد الشيعي من الظلم والتنكيل.
الملاحظة الثالثة:
إن التعامل مع أسانيد الروايات إحدى آليات الاستنباط الفقهي أي للوقوف على مدى صحة الرواية من عدمها، أما فيما يخص روايات الظهور فهي أشبه بالحالة الإنسانية التي ترافق الشخص في معرفة المستقبل، واستشراف ما يصبو إليه الإنسان وما تداهمه من أحداثٍ، لذا فهو يحاول أن يبحث عن الحقيقة ويتابع رواية هذه العلامات حرصاً منه على معرفة ما ينتظره من مصير، وهذا شأن أي إنسان بغض النظر عن كونه ثقة أو لا، إذن نحن لا نتحفظ على أسانيد هذه العلامات إذا لم تتعارض مع الكتاب والسنة والعقل.
الملاحظة الرابعة:
يجب أن نراعي في علامات الظهور بما يخص المدن دواعي الرواة ودوافعهم، فلربما يحاول بعض الرواة التنكيل بمنطقة ما، لدافع سياسي أو عقائدي ليجعل من بعض علامات الظهور مثلبة يطعنُ فيها على أهلها، أو منقصة يستفيد من خلالها بالتنكيل على أتباعها، كما في رواية عبيد الله بن عمرو في مجلس معاوية مخاطباً بها بعض أهل العراق المعروفين بولائهم لعليّ (عليه السلام)، بأن الدجال يخرج من بلدكم ومن منطقة بابل بالضبط، في حين أن روايات الدجال تشير إلى أن قوة يهودية متواجدة في أصفهان يستفيد منها الدجال في تنفيذ خططه وتحركاته، فحاول عبد الله بن عمرو أن يطعن بأهل العراق وفي محضر معاوية بإحدى علامات الظهور ليسخرها لخطه ويوجه فائدتها لمدرسته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي: ٢١٩ و٢٢٠/ مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).
(2) السابق.
(3) التوبة: ١٢٢.
(4) الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي: ٢١٩ و٢٢٠.
(5) السابق.
(6) الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي: ٢٢٦.
(7) الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي: ٢٣١.
محكمات السنن في الرد على شبهات أهل اليمن ـ شبهات الزيدية حول الإمام المهدي (عليه السلام).
تأليف: السيد محمّد عليّ الحلو.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة