تذرَّع منكرو عقيدة ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بتضعيفات ابن خلدون لبعض أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه)، وللأسف إنَّهم لم يلتفتوا إلى ردود علماء الدراية من أهل السُّنَّة على ابن خلدون، وتناسوا أيضاً تصريح ابن خلدون نفسه أثناء تضعيفه لبعض الأحاديث الواردة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بصحَّة بعضها الآخر.
قال الأُستاذ الأزهري سعد محمّد حسن - تلميذ الأُستاذ أحمد أمين - عن أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه): (ولقد أوسع علماء الحديث ونَقَدَتِه هذه المجموعة نقداً وتفنيداً، ورفضها بشدَّة العلَّامة ابن خلدون)(1).
ومثل هذا الزعم نجده عند أُستاذه أحمد أمين(2)، وكذلك عند أبي زهرة(3)، ومحمّد فريد وجدي(4)، وآخرين كالجبهان(5)، والسائح الليبي الذي قال: (وقد تتبَّع ابن خلدون هذه الأحاديث بالنقد، وضعَّفها حديثاً حديثاً)(6).
حقيقة تضعيفات ابن خلدون:
ممَّا لا شكَّ فيه، أنَّ ابن خلدون نفسه من القائلين بصحَّة بعض أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) وضعف بعضها الآخر، وهذا لم يكن اجتهاداً منَّا في تفسير كلام ابن خلدون، بل الرجل صرَّح بهذا في تاريخه كما سنوافيك بنقل نصِّ كلامه.
ويبدو لنا أنَّ الأُستاذ أحمد أمين لم يرَ تصريح ابن خلدون بصحَّة بعض الأحاديث، فأشار إلى تضعيفاته فقط، ثمّ نقل هؤلاء عنه ذلك مع صياغة جديدة في التعبير من دون مراجعة تاريخ ابن خلدون!
ثمّ لو فرضنا أنَّ ابن خلدون لم يُصرِّح بصحَّة شيء من أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه)، أفلا يكفي تصريح غيره من علماء الحديث والدراية بصحَّة أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) وتواترها؟ مع أنَّ اختصاص ابن خلدون هو التاريخ والاجتماع!
ثمّ ما هو المقدار الذي ضعَّفه ابن خلدون حتَى يُضخَّم عمله بهذه الصورة؟ إنَّه لم يُضعِّف سوى تسعة عشر حديثاً فقط من مجموع ثلاثة وعشرين حديثاً فقط، وهو المجموع الكلِّي الذي تناوله ابن خلدون بالدراسة والنقد، لا أكثر، وهو لم يذكر من الذين أخرجوا أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) غير سبعة فقط، وهم: (الترمذي، وأبو داود، والبزَّار، وابن ماجة، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي)(٤١٨)، تاركاً بذلك ثمانية وأربعين عالماً ممَّن أخرج أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه)، أوَّلهم ابن سعد صاحب الطبقات (ت ٢٣٠ هـ)، وآخرهم نور الدِّين الهيثمي (ت ٨٠٧هـ).
كما لم يذكر من الصحابة الذين أُسندت إليهم أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) إلَّا أربعة عشر صحابيًّا(7)، تاركاً بذلك تسعة وثلاثين صحابيًّا آخر، كما فصَّلنا ذلك في الفصل الأوَّل.
علماً بأنَّه لم يذكر من أحاديث الصحابة الأربعة عشر إلَّا اليسير جدًّا، في حين تتبَّعنا مرويَّات أبي سعيد الخدري وحده - وهو من جملة الأربعة عشر - فوجدناها أكثر من العدد الكلِّي الذي تناوله ابن خلدون، بل وحتَّى الذي اختاره من أحاديث أبي سعيد الخدري لم يذكر سائر طُرُقه، بل اكتفى باليسير منها، لعدم علمه ببقيَّة طُرُق الحديث الأُخرى، ومن راجع ما ذكرناه من طُرُق أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) وقارنه بما في تاريخ ابن خلدون (الفصل ٥٢ من المجلَّد الأوَّل) عَلِمَ علم اليقين بصحَّة ما نقول.
ومن هنا تعرَّض ابن خلدون إلى مؤاخذات عنيفة، وردود مطوَّلة ومختصره، وفي هذا الصدد يقول أبو الفيض الشافعي في (إبراز الوهم) في الردِّ على من تذرَّع بتضعيفات ابن خلدون: (في الناس اليوم ممَّن يخفى عليه هذا التواتر ويجهله ويُبعِده عن صراط العلم جهلُه، ويُضِلُّه من يُنكِر ظهور المهدي وينفيه، ويقطع بضعف الأحاديث الواردة فيه، مع جهله بأسباب التضعيف، وعدم إدراكه معنى الحديث الضعيف، وتصوُّره مبادئ هذا العلم الشريف، وفراغ جرابه من أحاديث المهدي الغنيَّة - بتواترها - عن البيان لحالها والتعريف، وإنَّما استناده في إنكاره مجرَّد ما ذكره ابن خلدون في بعض أحاديثه من العلل المزوَّرة المكذوبة، ولمز به ثقات رواتها من التجريحات الملفَّقة المقلوبة، مع أنَّ ابن خلدون ليس له في هذه الرحاب الواسعة مكان، ولا ضرب له بنصيب ولا سهم في هذا الشأن، ولا استوفى منه بمكيال ولا ميزان. فكيف يعتمد فيه عليه، ويرجع في تحقيق مسائله إليه؟! فالواجب: دخول البيت من بابه، والحقُّ: الرجوع في كلِّ فنٍّ إلى أربابه، فلا يقبل تصحيح أو تضعيف إلَّا من حُفَّاظ الحديث ونُقَّاده)(8).
ثمّ نقل بعد ذلك عن جملة من حفَّاظ الحديث ونقَّاده قولهم بصحَّة أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) وتواترها.
وقال الشيخ أحمد شاكر: (ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحماً لم يكن من رجالها، إنَّه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدَّمته تهافتاً عجيباً، وغلط أغلاطاً واضحة. إنَّ ابن خلدون لم يحسن فهم قول المحدِّثين، ولو اطَّلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً ممَّا قال)(9).
وقال الشيخ العبَّاد: (ابن خلدون مؤرِّخ وليس من رجال الحديث، فلا يُعتَدُّ به في التصحيح والتضعيف، وإنَّما الاعتماد بذلك بمثل البيهقي، والعقيلي، والخطَّابي، والذهبي، وابن تيميَّة، وابن قيِّم، وغيرهم من أهل الرواية والدراية الذين قالوا بصحَّة الكثير من أحاديث المهدي)(10).
وعلى أيَّة حالٍ، فإنَّ حجَّة المتمسِّكين بتضعيفات ابن خلدون حجَّة داحضة، لاعتراف ابن خلدون نفسه بصحَّة أربعة أحاديث من مجموع ما ذكره، وهي:
١ - ما رواه الحاكم من طريق عوف الأعرابي، عن أبي الصدِّيق الناجي، عن أبي سعيد الخدري. فقد سكت عنه ابن خلدون ولم ينقده بحرف واحد، لوثاقة جميع رجاله عند أهل السُّنَّة قاطبة. وهو وإنْ لم يُصرِّح بصحَّته إلَّا أنَّ سكوته دليل على اعترافه بصحَّة الحديث(11).
٢ - ما رواه الحاكم أيضاً من طريق سليمان بن عبيد، عن أبي الصدِّيق الناجي، عن أبي سعيد الخدري. قال عنه ابن خلدون: (صحيح الإسناد)(12).
٣ - ما رواه الحاكم عن عليٍّ (عليه السلام) حول ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه)، وصحَّحه الحاكم على شرط الشيخين. قال ابن خلدون: (وهو إسناد صحيح كما ذكر)(13).
٤ - ما رواه أبو داود السجستاني في (سُنَنه) من رواية صالح بن الخليل، عن أُمِّ سَلَمة. قال ابن خلدون عن سنده: (ورجاله رجال الصحيح لا مطعن فيهم ولا مغمز)(14).
تضعيفات ابن خلدون بلغة الأرقام:
إنَّ لغة الأرقام الحسابيَّة لا تقبل نقاشاً ولا جدلاً، وسوف نُخضِع نتائج البحث في تضعيفات ابن خلدون إلى تلك اللغة، لنرى القيمة العلميَّة لعمله على جميع الافتراضات المحتملة، وذلك بعد تصنيف أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) واستقرائها من ألف مجلَّد كما في (معجم أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه))، ويقع في خمسة مجلَّدات، اشتملت على ما يأتي:
١ - المجلَّدان الأوَّل والثاني: اشتملا على (٥٦٠) حديثاً من الأحاديث المرويَّة بطُرُق الفريقين، والمسندة جميعها إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
٢ - المجلَّدان الثالث والرابع: اشتملا على (٨٧٦) حديثاً، أُسندت إلى الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، واشترك أهل السُّنَّة برواية الكثير جدًّا منها مع الشيعة الإماميَّة.
٣ - المجلَّد الخامس: اشتمل على (٥٠٥) حديثاً، وكلُّها من الأحاديث المفسِّرة للآيات القرآنيَّة، وفي هذا المجلَّد تغطية وافية لجميع ما أورده المفسِّرون - من أهل السُّنَّة والشيعة - من أحاديث تفسيريَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
وبهذا يكون مجموع الأحاديث غير المفسِّرة للآيات (١٤٣٦) حديثاً، ومع المفسِّرة سيكون المجموع (١٩٤١) حديثاً.
أمَّا عن طُرُقها جميعاً فلعلَّها تقرب من أربعة آلاف طريق.
فإذا علمت هذا، فاعلم أخي المسلم أنَّ:
١ - مجموع أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) التي تناولها ابن خلدون بالنقد هي (٢٣) حديثاً فقط.
٢ - أسانيد هذه الأحاديث (٢٨) إسناداً فقط.
٣ - الصحيح منها باعتراف ابن خلدون كما مرَّ (٤) أحاديث.
٤ - الضعيف منها (١٩) حديثاً فقط.
إذن: فأحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) التي لم تتناولها دراسة ابن خلدون هي (١٩١٨) حديثاً، منها (٥٣٧) حديثاً مسنداً إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، و(٨٧٦) حديثاً مسنداً إلى أهل البيت (عليهم السلام)، و(٥٠٥) حديثاً مفسِّراً للآيات الكريمة في المهدي (عجَّل الله فرجه).
وبهذا يُعلَم أنَّ العدد (٢٣) لا يُشكِّل في الواقع إلَّا النِّسَب التالية:
١ - (٤.١٠٧%) من مجموع الأحاديث المسندة إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
٢ - (١.٦٠١%) من مجموع الأحاديث المسندة إلى النبيِّ وأهل البيت (عليهم السلام).
٣ - (١.١٨٤%) من مجموع سائر الأحاديث.
أمَّا لو كان ابن خلدون قد تناول بالنقد جميع أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لارتفع عدد الأحاديث الصحيحة (وهو أربعة عنده من مجموع ٢٣) إلى الأرقام التالية طبقاً للغة التناسب:
١ - (٩٨) حديثاً صحيحاً، لو كان تناول بالنقد جميع ما أُسند إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
٢ - (٢٥٠) حديثاً صحيحاً، لو كان تناوله لما أُسند إلى النبيِّ وأهل بيته (عليهم السلام).
٣ - (٣٣٨) حديثاً صحيحاً، لو كان تناوله لسائر الأحاديث.
ولا يخفى بأنَّ العدد الأوَّل منها يكفي للحكم بتواتر أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه).
وأمَّا عن الأحاديث المردودة عند ابن خلدون، فلو قيست بما لم يتناوله منها، لكانت بالقياس إلى مجموعها تُمثِّل النِّسَب التالية:
١ - (٣.٣٩٢%) من مجموع الأحاديث المسندة إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
٢ - (١.٣٢٠%) من مجموع ما أُسند إلى النبيِّ وأهل بيته (عليهم السلام).
٣ - (٠.٩٧٨%) من مجموع سائر الأحاديث.
وبعد، فكيف يُدَّعى بأنَّ ابن خلدون قد ضعَّف جميع أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه)؟ هذا مع ما تقدَّم عنه بأنَّه من المصرِّحين بصحَّة بعض الأحاديث على الرغم من قلَّة ما تناوله منها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المهديَّة في الإسلام منذ أقدم العصور حتَّى اليوم (ص ٧٠).
(2) المهدي والمهدويَّة (ص ١٠٨).
(3) الإمام الصادق (حياته وعصره - آراؤه وفقهه) (ص ٢٣٩).
(4) دائرة معارف القرن العشرين (ج ١٠/ ص ٤٨١).
(5) تبديد الظلام للجبهان (ص ٤٧٩ و٤٨٠).
(٤١٧) تراثنا وموازين النقد لعليّ حسين السائح الليبي (ص ١٨٥)، مقال منشور في مجلَّة كلّيَّة الدعوة الإسلاميَّة في ليبيا (العدد ١٠/ سنة ١٩٩٣م/ طبع بيروت).
(6) تاريخ ابن خلدون (ج ١/ ص ٣١١/ الفصل ٥٢).
(7) المصدر السابق.
(8) إبراز الوهم المكنون (ص ١٣).
(9) الردُّ على من كذَّب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي، مقال للشيخ عبد المحسن بن حمد العبَّاد، منشور في مجلَّة الجامعة الإسلاميَّة في المدينة المنوَّرة (العدد ١/ السنة ١٢/ الرقم ٤٦/ سنة ١٤٠٠هـ).
(10) المصدر السابق.
(11) تاريخ ابن خلدون (ج ١/ ص ٣١٦).
(12) المصدر السابق.
(13) تاريخ ابن خلدون (ج ١/ ص ٣١٩).
(14) تاريخ ابن خلدون (ج ١/ ص ٣١٤).
المصدر : المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) في الفكر الإسلامي ـ تأليف : السيد ثامر هاشم حبيب العميدي.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة