هل يأتي الإمام المهدي بدين جديد ؟ وهل يمكن نسخ الأحكام في زمانه ؟

, منذ 4 اسبوع 376 مشاهدة

لقد ثبت النسخ في الشريعة الإسلاميّة والذي هو عبارة عن انتهاء أمد حكم ما شُرِّعَ وعلم المشرع بأنَّه مؤقَّت، إلَّا أنَّه لم يبيِّنه كذلك لمصلحة أو مصالح كإعطاء الحكم زخماً أكثر في النفوس. ويمكن أن نتعقَّل أنَّ بعض الأحكام ينتهي أمدها عند ظهور الإمام (عليه السلام) ممَّا يمكن أن يترك أثره على سمة الشريعة وأنَّها جديدة قياساً بما قبل ظهوره (عليه السلام). ثمّ إنَّه لا توجد آية أو رواية تنفي ذلك. والعقل الذي قَبِلَ إمكان حصوله في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، بل قَبِلَ بوقوعه لا يأبى أن يقع بعد زمن طويل.

لكن هذا الوجه ضعيف جدّاً، لا أقلّ باعتبار ما ورد من أنَّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة(1). وهو كما قيل متواتر في المعنى. وإن أمكن الخدشة من جهة أنَّ النسخ قد لا يكون ضمن نطاق الحرمة والحلّية إذ قد نتعقَّل نسخ الإباحة بالمعنى الأخصّ بالاستحباب ونسخ الاستحباب بالوجوب أو بالكراهة. لكنَّه يبقى احتمالاً ضعيفاً، لأنَّه يمكن أن يكون المراد من الحديث أنَّ كلّ أحكام الشريعة باقية على حالها إلى يوم القيامة. فالحلال والحرام الواردين في الحديث لم ترد خصوصيتهما، بل أُطلقا وأُريد جميع الأحكام، بل ربَّما أُلغيت خصوصية الحكم التكليفي واستظهرت الإشارة إلى ثبات أحكام الشريعة مطلقاً ولو كانت وضعية كما هو غير بعيد.

على أنَّه لا توجد عين ولا أثر عن إمكان ذلك بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في كلمات المعصومين (عليهم السلام) ممَّا يُبعِّد ثبوته.

وهذا الذي قلناه وإن لم يفد القطع بعدم إمكان النسخ فيبقى أصل الاحتمال، إلَّا أنَّنا لا نريد التمسّك بأيّ احتمال ولو كان ضعيفاً جدّاً.

تغيّر بعض الآليات:

وقد يرجع بعض ذلك إلى تغيّر في بعض الآليات، والمعروف من ذلك ما يرجع إلى الأحكام في باب القضاء، حيث دلَّت الروايات على أنَّه يحكم فيهم بحكم داود (عليه السلام) ولا يعتمد على البيّنة الشرعية التي كان يعمل بها المعصومون - ولو مع اطّلاعهم على مغايرة الواقع لمؤدّاها - ومن جاء بعدهم (عليهم السلام) وإن كان باعتبار عدم قدرتهم على النظر إلى الواقع بنحو قطعي فلا يبقى أمامهم في مقام إقامة الحدود إلَّا العمل بالبيّنات الشرعية وهم يعلمون أنَّها قد تُخطئ الواقع. فحينها تكون النفوس مستعدّة لقبول هذا النحو من القضاء، فيرتفع المانع من العمل بالحقّ الذي علمه المعصوم (عليه السلام). ولذلك شواهد في الروايات التي تحدَّثت عن ظهوره (عليه السلام).

ثبات معالم الدين:

ثمّ إنَّ اتّصاف ما يظهر في زمانه (عليه السلام) بأنَّه دين جديد لا يعني تغيّر الملامح العامّة للدين السائد إذ يكفي الاختلاف في بعض الفرعيات.

والبيانات السماوية مع أنَّ كلّ شريعة تنسخ الشريعة السابقة عليها حتَّى عبَّر الكتاب الكريم بالقول: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) (المائدة: ٤٨)، إلَّا أنَّ ذلك لم يمنع من اتّحاد الخطّ العامّ للديانات والشرائع، بل والاتّحاد في أبواب واسعة من الأحكام، كالأحكام التي يمكن أن يدركها العقل والتي لا بدَّ أن تكون ثابتة في جميع الشرائع. وكيف نتعقَّل حكماً يدركه العقل في هذه الشريعة ولا يدركه في شريعة أُخرى؟ والأحكام التي فيها مصالح نعلم بأنَّ الشارع لا يقبل بفواتها، كالقتل والانتحار والكفر والشرك والزنا وشرب الخمر التي حكم بحرمتها والإيمان وإنقاذ النفس المحترمة والإحسان إلى الآخرين، بل لا يبعد أن تكون الصلاة والصيام وبعض مفردات الإنفاق على الآخرين من هذا القبيل أيضاً.

ومع كلّ ذلك يقول الكتاب الكريم:

* (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (الحجّ: ٧٨).

* (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: ١٣٢).

* (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) (آل عمران: ٦٧).

* (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: ١٢٧ و١٢٨).

ويقول على لسان يوسف (عليه السلام): (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: ١٠١).

ويقول على لسان الحواريين: (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: ٥٢).

وحيث ينقل حادثة إيمان السحرة يقول على لسانهم: (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (الأعراف: ١٢٦).

وحين يتحدَّث القرآن عن الإنسان بشكل عامّ يقول: (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: ١٥).

وهذا يعني أنَّ كون الإسلام هو جوهر كلّ الديانات والجامع المشترك بينها كان واضحاً عند عامّة الناس، بل حتَّى فرعون حين أدركه الغرق قال إنَّه مسلم، (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: ٩٠).

ومن جهة أُخرى نرى أنَّ القرآن يصر على أنَّ الدين لا بدَّ أن يكون موافقاً للفطرة التي لا نشكُّ أنَّها لازمة لخلقة أجيال النوع الإنساني على مرِّ العصور.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (الروم: ٣٠).

ممَّا يعني تشابهاً كبيراً في أحكام الشرائع على اختلافها، لأنَّها لا بدَّ أن تكون منسجمة مع الفطرة الإنسانية الثابتة بثبات وبقاء النوع الإنساني.

إمكان التغيّر واقعاً في الفروع:

ثمّ إنَّ بعض الوجوه المتقدّمة التي على أساسها نتعقَّل اختلاف الشريعة في زمانه (عليه السلام) إنَّما تجري في الأحكام والفروع لا في المعتقد، إذ ليس في المعتقد جنبة تطبيقية، ولا مجال لإعمال الولاية التشريعية في المعتقدات، لأنَّ المعتقد يفترض أن يكون مطابقاً للواقع، والواقع غير قابل للتغيير. كما لا مجال للنسخ في المعتقدات لأنَّه لا معنى له هناك، فينحصر الأمر في الكاشف عنه أي يختصّ مجال الاختلاف في المعتقد بما يرجع إلى مقام الإثبات.

لكن ذلك لا يعني أنَّ المعتقد غير قابل للتغيير، لأنَّه يمكن توجيه دلالة دليل أو إقامة دليل جديد على أمر لم يكن معتقداً به. ومن أمثلة ذلك ما قام من الأدلَّة على ضرورة الإمامة وشخص الإمام (عليه السلام) ودور الإمامة ومهمّة الإمام في وقت أنكرها أو بعض تفاصيلها أكثر المسلمين.

بل ضمن نطاق الفكر الشيعي تغيَّرت معتقدات جزئية متعدِّدة بعد إعمال النظر في نفس الأدلَّة التي كانت بين أيدي أسلافنا من العلماء. وقد تطوَّر علم الكلام في القرون الماضية كثيراً ولم ينحصر تطوّره في آليات الاستدلال وأدواته بل عمَّ ذلك بعض المعتقدات.

والحاصل أنَّ ظهور ملامح جديدة لهذا الدين في زمان ظهوره (عليه السلام) لا يختصُّ بالفروع، بل يشمل الأصول أيضاً وإن بحدود أضيق وأسباب أقلّ. إذ لا شكَّ سيتبيَّن للمسلمين أنَّ الله تعالى ليس له جسم وأنَّه لا يمكن أن يُرى في الدنيا ولا في الآخرة وأنَّه يستحيل أن تكون له يد أو رجل أو وجه وأنَّه عادل وإن كان لا يُسئل عن شيء وهم يُسألون، وأنَّه الخالق لنا على نحو الاستقلال ولأفعالنا الاختيارية بأسبابها التي منها اختيارنا، وأنَّ أحكامه تابعة لمصالح الناس عادةً ومفاسدهم.

وسيتبيَّن أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يهجر ولو في أُخريات حياته وأنَّه لا ينطق على لسانه الشيطان وأنَّه لا يحتاج لورقة بن نوفل ليعرف أنَّه نبيّ وأنَّه لا يخاف إن تأخَّر عنه الوحي أنَّه نزل على غيره خصوصاً فلان، وأنَّه لا يمكن أن ينسى أو يسهو وأنَّه لم يترك الأُمَّة بلا إمام وقائد.

كما سيتبيَّن أنَّه الله تعالى لا يمكن أن يترك الناس بلا حجَّة تتلاعب بهم الأهواء ويحكم الزيغ والأهواء، وغير ذلك كثير.

الخلاصة:

تحصَّل ممَّا سبق أنَّ ما ذكرته الروايات الشريفة من أنَّه (عليه السلام) يأتي بدين جديد معقول جدّاً ولا مانع منه. وأنَّ المقصود من ذلك ليس معناه الدقّي، وأنَّه سيكون عندنا شريعة جديدة بواقع أنَّها شريعة جديدة. وكيف نلتزم بذلك أو نتحمَّله مع اعتقادنا بأنَّ الشرائع والنبوّات قد خُتمت بالشريعة المحمّدية الخاتمة التي أوصد بها باب النبوّات إلى آخر الدهر؟ بل المراد هو المعنى المجازي الذي لا يقتضي أكثر من تغيّر بعض الأحكام التي كان يُعتقد أنَّها شرعية أو كانت شرعية فعلاً لأنَّ الأحكام الظاهرية شرعية أيضاً إلَّا أنَّ ظرفها قد انتهى لانتفاء موضوعها، إذ موضوعها مشروط بالجهل بالأحكام الواقعية في الشريعة، فإذا انتفى الجهل انتفى موضوعها، فانتفت شرعيتها في زمان العلم وإن كانت شرعية قبله.

فالمنكشف غالباً إن لم يكن دائماً يُمثِّل جزءاً من الشريعة المحمّدية على من جاء بها آلاف التحيّة والسلام وعلى آله الطيّبين الكرام، فلا يرد من ما يظهر في زمانه (عليه السلام) أنَّه ديانة جديدة تنسخ بها شريعة الإسلام المحمّدي. فالتغيّر الحاصل عادةً إن لم يكن دائماً راجع إلى مقام الإثبات لا الثبوت والواقع، فالشريعة واقع بجانبيها الأُصول والأحكام لم تنكشف لنا بكلّ تفاصيلها لظروف ليس هذا محلّ التعرّض لها وستنكشف صورتها التفصيلية في زمانه (عليه السلام) لارتفاع الموانع ممَّا يلبسها ثوباً جديداً يصلح معه أن يقال: إنَّها ديانة جديدة غير ما عهد من الإسلام في زمان الغيبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع: بصائر الدرجات: ١٦٨/ باب ١٣/ ح ٧؛ الكافي ١: ٥٨/ باب البدع والرأي والمقائيس/ ح ١٩.

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.0461 Seconds