بداية الغيبة الصغرى من مولده, بعدما كان المقصود من الغيبة هو غيبة الهويّة, وأنَّ الإمام (عليه السلام) من حين الولادة قد غيّبت هويَّته, لا من ابتداء إمامته إلى حين وفاة السفير الأخير، وأمَّا الكبرى فبعد الأولى إلى ظهوره.
أمَّا وجه الغيبة التي هي سُنّة الأنبياء، فقد روى زرارة، قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: «إنَّ للقائم غيبة قبل ظهوره»، قال: قلت: ولِمَ؟ قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه -»، قال زرارة: يعني القتل(1).
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام): «يخاف على نفسه الذبح»(2).
وعن إبراهيم بن عمر اليماني، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين»، وسمعته يقول: «لا يقوم القائم ولأحد في عنقه بيعة»(3).
وعن الصادق (عليه السلام): «للقائم غيبتان: إحداهما قصيرة، والأخرى طويلة، الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصّة شيعته، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصّة مواليه في دينه»(4).
وعن مفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «لصاحب هذا الأمر غيبتان: إحداهما يرجع منها إلى أهله, والأخرى يقال: هلك، في أيّ وادٍ سلك؟»، قلت: كيف نصنع إذا كان كذلك؟ قال: «إذا ادّعاها مدَّع فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله»(5).
وفي خبر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين, إحداهما تطول حتَّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قُتِلَ، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلّا نفر يسير، لا يطَّلع على موضعه أحد من وليّ ولا غيره إلّا المولى الذي يلى أمره»(6).
ونشير إلى فوائد من هذه الأحاديث:
١ - كلّ ما ورد من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) في هذا المورد عبارة عن عملية تعبئة نفسية للأمّة الإسلاميّة.
٢ - المراد من الرجوع إلى أهله, أي: النوّاب الأربعة.
٣ - غيبتان: ليس الفارق بين الغيبتين بلحاظ الإمام, أي: إنَّه غاب، ثمّ ظهر, ثمّ غاب، بل لم يظهر الإمام في كلتا الغيبتين وفي تمام الفترتين، وهكذا الفاصل بين الفترتين، كما ليس المراد بلحاظ قصر الزمان وطوله، بل المراد طبيعة ارتباط الإمام مع الشيعة.
ففي الصغرى عن طريق السفراء الأربعة، أمَّا في الكبرى لم يكن هناك سفراء, فكان الاتّصال بالإمام في أيّام الغيبة الصغرى متيسّراً بنوع ما حتَّى لغير نوّابه الخاصّين، بخلاف الغيبة الكبرى فهي غير متيسّرة، ولعلَّ الغيبة الصغرى وقعت على ما لها من نوع ارتباط خاصّ بين نوّابه الخاصّين وبين الشيعة تمهيداً لوقوع الغيبة الكبرى، مضافاً إلى أنَّ فائدة الغيبة الصغرى إحراز وجود الإمام وتولّده.
قال المفكّر الشهيد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه): (لوحظ أنَّ هذه الغيبة إذا جاءت مفاجئة حقَّقت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الأمّة الإسلاميّة، لأنَّ هذه القواعد كانت معتادة على الاتّصال بالإمام في كلّ عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوّعة. فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفكرية، سبَّب هذه الغيبة المفاجئة الإحساس بفراغ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كلّه ويشتّت شمله، فكان لا بدَّ من تمهيد لهذه الغيبة لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى...)(7).
فتخلَّص أنَّ أسباب الغيبة: الخوف عليه, والامتحان والاختبار, وعدم بيعته للظالم.
ففي البحار: عن زرارة بن أعين، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أن يقوم»، قلت: ولِمَ ذاك؟ قال: «يخاف - وأشار بيده إلى بطنه وعنقه -»، ثمّ قال: «وهو المنتظر الذي يشكُّ الناس في ولادته, فمنهم من يقول: إذا مات أبوه مات ولا عقب له، ومنهم من يقول: قد وُلِد قبل وفاة أبيه بسنتين، لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يجب أن يمتحن خلقه, فعند ذلك يرتاب المبطلون»(8).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كمال الدين: ٤٨١/ باب ٤٤/ ح ٩.
(2) كمال الدين: ٤٨١/ باب ٤٤/ ح ١٠.
(3) الغيبة للنعماني: ١٧٦/ باب ١٠/ فصل ٤/ ح ٣.
(4) الغيبة للنعماني: ١٧٥/ باب ١٠/ فصل ٤/ ح ٢.
(5) الكافي ١: ٣٤٠/ باب في الغيبة/ ح ٢٠.
(6) الغيبة للنعماني: ١٧٦/ باب ١٠/ فصل ٤/ ح ٥.
(7) البحث حول المهدي: ١٠٨.
(8) بحار الأنوار ٥٢: ٩٥/ ح ١٠، عن كمال الدين: ٣٤٢/ باب ٣٣/ ح ٢٤.
الإساءة إلى القائم (عليه السلام) ليست أوّل قارورة كسرت في الإسلام ـ تأليف: السيّد أحمد الأشكوري.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة