نختار بعضاً من هذه العلامات الخاصَّة لما بها من دلالة غيبيَّة هامَّة بحكم عدم إمكان تصوُّر موضوعها في ذلك الوقت لدى تحدُّث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الأئمَّة (عليهم السلام) عنها، مع قيام هذا الموضوع أو مؤشِّراته في عصرنا الحاضر، بل إنَّ بعضها ما يزال تصوُّر حدوثه صعباً، إلَّا أنَّ العلماء - وبحسابات علميَّة - بدأوا يتوقَّعونه.
ولا نشكُّ أنَّ لمثل هذه الإخبارات في هذه الموضوعات الخاصَّة قبل حدوثها بقرون عديدة أهمّيَّته في ترسيخ الإيمان لا بالصلة الحقَّة للمتحدِّث فيه بالله ﴿عَالِمُ الغَيْبِ﴾ الذي ﴿لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: ٢٦ و٢٧) فقط، بل بالموضوع الذي تكون العلامة بين يديه أو عنده كذلك.
وسنجد في هذه العلامات أيضاً ما يدلُّ على المرحلة التاريخيَّة والحضاريَّة التي يظهر فيها الإمام (عجَّل الله فرجه) دون توقيت، لأنَّ المرحلة قد تمتدُّ لمدى غير معروف.
ومن هذه العلامات:
١ - تطاول رعاة الإبل بالبنيان:
روى أبو هريرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حين سُئِلَ: متى الساعة؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتْ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ البُهْمُ فِي البُنْيَانِ...» الحديث(1).
والذي يعنينا هنا ما ذكره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، فإنَّ من الواضح أنَّ المقصودين بذلك سُكَّان الجزيرة العربيَّة، فهي التي تتميَّز أكثر من غيرها بتربية الإبل واستخدامها قديماً حتَّى إنَّ البعير يوضع كتأشير للبلاد العربيَّة خاصَّة(2).
ومن الواضح أنَّها لم تكن معروفة سابقاً بالتطاول في البنيان وإنشاء البيوت والعمارات والفنادق الفخمة ذات الطوابق المتعدِّدة، ولكن هذا هو الواقع منذ اكتشاف البترول بالفعل، وحين تشهد ذلك وتقارن بين الماضي والحاضر عليك أنْ تذكر صاحب النبوءة (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصادق الأمين، وتعلم أنَّك تشهد بعض أشراط الساعة المتَّصلة بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لأنَّه منها.
٢ - اتِّصال الكوفة بالنجف والحيرة ثمّ بكربلاء:
روى الشيخ المفيد (رحمه الله) المتوفَّى سنة (٤١٣هـ) عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بَنَى فِي ظَهْرِ الكُوفَةِ مَسْجِداً لَهُ ألفُ بَابٍ، وَاتَّصَلَتْ بُيُوتُ أَهْلِ الكُوفَةِ بِنَهْرَيْ كَرْبَلَاءَ»(3).
وروى الطوسي (رحمه الله) المتوفَّى في سنة (٤٦٠هـ) بسنده عَنْ مُفَضَّل بْن عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُور رَبِّها...»، إلى أنْ يقول: «وَيَبْني فِي ظَهْر الكُوفَةِ مَسْجِداً لَهُ ألفُ بَابٍ، وَتَتَّصِلُ بُيُوتُ الكُوفَةِ بِنَهَر كَرْبَلَاءَ وَبِالحِيرَةِ»(4).
وروى الطوسي (رحمه الله) أيضاً بسنده عَنْ أَبِي خَالِدٍ الكَابُلِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا دَخَلَ القَائِمُ الكُوفَةَ لَمْ يَبْقَ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَهُوَ بِهَا أَوْ يَجِيءُ إِلَيْهَا»(5).
وذكر في حديث آخر عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) أَنَّه «يَخْرُجُ إِلَى الغَريِّ، فَيَخُطُّ مَسْجِداً لَهُ ألفُ بَابٍ»(6).
وروي مسنداً إلى حَبَّةَ العُرَنيِّ، قَالَ: خَرَجَ أَمِيرُ المُؤْمِنينَ (عليه السلام) إِلَى الحِيرَةِ، فَقَالَ: «لَيَتَّصِلَنَّ هَذِهِ بِهَذِهِ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الكُوفَةِ وَالحِيرَةِ - حَتَّى يُبَاعَ الذِّرَاعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِدَنَانِيرَ»(7).
والملفت في هذه الروايات أنَّ الكوفة والحيرة لم تكونا في عصر الإمام عليٍّ (عليه السلام) والإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) من حيث الحجم السُّكَّاني بما يمكن أنْ يُتوقَّع معه اتِّصالهما وارتفاع سعر الأرض بينهما إلى هذا المقدار، أمَّا النجف وكربلاء فعدا أنَّهما لم يكونا قد مُدِّنا آنذاك فإنَّ الاتِّصال بينهما وبين الكوفة والحيرة لم يكن ليبلغه حتَّى الخيال آنذاك، ومثل ذلك أمر الحاجة إلى مسجد يبلغ من السعة بحيث يحتاج إلى ألف باب.
ولكن هذا الذي كان منتفياً موضوعاً وفي أكثر من جهة في عصرهم (عليهم السلام) قد قامت مؤشِّراته بالفعل، ومن يرى ما حدث منذ ثلاثة عقود من اتِّصال الكوفة بالنجف، وامتدادها نحو الحيرة من جهة، ونحو كربلاء من جهة ثانية، وامتداد كربلاء نحوهما كذلك، ثمّ رصد الخطَّ البياني لحركة الهجرة نحو هذه المنطقة ومُدُنها، يرى أنَّ ما جاء في هذه الروايات ليس بعيداً، بل هو يتَّجه نحو التحقيق، وبصورة أسرع ممَّا هو الطبيعي.
ولا نشكُّ أنَّ شوق المؤمنين للإمام (عليه السلام) ورغبة مجاورته لدى ظهوره سيجعل ما قد بقي من المسافات حتَّى الآن أقلّ حتَّى ممَّا هي الكفاية.
٣ - يرى مَنْ في المشرق مَنْ في المغرب وبالعكس:
روى المجلسي (رحمه الله) المتوفَّى (١١١١هـ) بسنده عَنِ ابْن مُسْكَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ المُؤْمِنَ فِي زَمَان القَائِم وَهُوَ بِالمَشْرقِ لَيَرَى أَخَاهُ الَّذِي فِي المَغْربِ، وَكَذَا الَّذِي فِي المَغْربِ يَرَى أَخَاهُ الَّذِي فِي المَشْرقِ»(٤٦٧).
وبسنده عن المفضَّل بن عمر أنَّه سأل الصادق (عليه السلام) في رواية طويلة، فقال: يَا سَيِّدِي، فَفِي أَيِّ بُقْعَةٍ يَظْهَرُ المَهْدِيُّ؟ قَالَ (عليه السلام): «لَا تَرَاهُ عَيْنٌ فِي وَقْتِ ظُهُورهِ إِلَّا رَأَتْهُ كُلُّ عَيْنٍ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ غَيْرَ هَذَا فَكَذِّبُوهُ»(٤٦٨).
وروى الكليني (رحمه الله) المتوفَّى (٣٢٩هـ) بسنده إلى أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ مَدَّ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِشِيعَتِنَا فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القَائِمِ بَرِيدٌ، يُكَلِّمُهُمُ فَيَسْمَعُونَ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْه وَهُوَ فِي مَكَانِه»(8).
ولا أظنُّ أنَّا في حاجة لبيان أنَّ ما أشارت إليه الروايات لم يكن متصوَّراً حتَّى على مستوى الخيال في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي تُوفّي سنة (١٤٨هـ)، بل ما كان ليمكن أنْ يُتصوَّر قبل عهد التلفزة، بل التلفزة عبر الأقمار الصناعيَّة، ويمكن أنْ يكون في الحديث الثالث إشارة إلى الهاتف التلفازي الذي بدأت تجاربه الناجحة في مستوى المسافات القريبة.
وليس أمامنا لفهم هذه الأحاديث - ومن رواة بعضها الشيخ الكليني المتوفَّى سنة (٣٢٩هـ) - إلَّا ما ذكرناه من الإمكانيات التي أتاحتها العلوم والتقنيَّات في عصرنا؛ لأنَّ تفسيرها بخصوصيَّات خارقة يرفضها - لو قبلناها جدلاً - كونها عامَّة عدا أنَّها لا داعي لها مع كون الوسيلة التقنيَّة قائمة على مستوى ما أشارت إليه الروايات بالفعل. وهذا يعني أنَّ عصرنا - بخصوصيَّاته - هو عصر الإمام (عجَّل الله فرجه) دون توقيت، لعدم إمكان تحديد مداه من حيث المستقبل. ومهما اختلفنا في شيء فإنَّا لا يمكن أنْ نختلف في كونها نبوءات باهرة ودقيقة، بل هي آية بالفعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري (ج ١/ ص ٤٨ و٤٩/ ح ٤٧).
(2) كما في حديقة الهايدبارك في لندن.
(3) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨٠).
(4) الغيبة للطوسي (ص ٤٦٧ و٤٦٨/ ح ٤٨٤).
(5) الغيبة للطوسي (ص ٤٥٥/ ح ٤٦٤)؛ وروى (رحمه الله) في (ص ٤٥١/ ح ٤٥٥) بسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ اِبْن أَبِي الهُذَيْل، قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَجْتَمِعَ كُلُّ مُؤْمِنٍ بِالكُوفَةِ).
(6) الغيبة للطوسي (ص ٤٦٨ و٤٦٩/ ح ٤٨٥).
(7) تهذيب الأحكام (ج ٣/ ص ٢٥٣ و٢٥٤/ ح ٦٩٩/١٩).
(8) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٣٩١/ ح ٢١٣)، عن سرور أهل الإيمان (ص ١١٥).
(٤٦٨) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٦)، عن الهداية الكبرى (ص ٣٩٥).
(٤٦٩) الكافي (ج ٨/ ص ٢٤٠ و٢٤١/ ح ٣٢٩)؛ وردت روايات أُخرى مشابهة يؤول مضمونها إلى ما جاء في هذه الرواية، منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٦٧١ و٦٧٢/ باب ٥٨/ ح ٢٢) بسنده عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى القَائِم (عليه السلام) عَلَى ظَهْر النَّجَفِ، فَإذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْر النَّجَفِ رَكِبَ فَرَساً أَدْهَمَ أَبْلَقَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ شِمْرَاخٌ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ بِهِ فَرَسُهُ، فَلَا يَبْقَى أَهْلُ بَلْدَةٍ إِلَّا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ...»، ومنها ما رواه الصدوق (رحمه الله) أيضاً في كمال الدِّين (ص ٦٥٠ و٦٥١/ باب ٥٧/ ح ٨) بسنده عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ بِاسْم القَائِم (عليه السلام)»، قُلْتُ: خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ؟ قَالَ: «عَامٌّ، يَسْمَعُ كُلُّ قَوْم بِلِسَانِهِمْ».
المصدر : الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) وأدعياء البابية والمهدوية بين النظرية والواقع.
تأليف : الدكتور السيد عدنان البكاء (رحمه الله).
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة