هناك عدَّة سور قرآنيَّة تناولت حياة النبيِّ موسى (عليه السلام) بدءاً من ولادته، وحتَّى قبل ولادته، وخفاء ولادته، ثمّ ترعرعه ونشأته في الخفاء، ثمّ غيبته عن بني إسرائيل، وفي الحقيقة فإنَّه غاب عن بني إسرائيل منذ ولادته، وكان قومه يتطلَّعون إليه كمنجٍ ومغيث لهم من الفراعنة حيث إنَّهم قاموا باستعباد بني إسرائيل، فقد كانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم، كما في قوله تعالى:
﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ (الأعراف: ١٤١).
فتطلُّع بني إسرائيل وانتظارهم للنبيِّ موسى (عليه السلام) كنبيٍّ وكإمام مُنجٍ ومصلحٍ لهذا الفساد والظلم والضيم الذي يعيشون فيه هو محلُّ عِظَة وعِبرة يُسطِّرها لنا القرآن الكريم, وهو أنَّ في أدوار تفشِّي الظلم والفساد تأتي سُنَّة الله (عزَّ وجلَّ)، وهي بعثُ المصلح، وربَّما تغيب وتخفى ولادة المنجي والمصلح الذي هو حجَّة من الله، بل حتَّى ما بعد الولادة يمكن أنْ تخفى حاله، كما جرى في النبيِّ موسى (عليه السلام) وغيبته، ثمّ مجيئه بعد الغيبة، وإنجائه لبني إسرائيل وما رافق ذلك.
فهنالك في الواقع عدَّة محاور يمكن استعراضها بشكل تفصيلي، وإنَّما ذكرت ذلك إجمالاً الآن في حياة النبيِّ موسى (عليه السلام), لأنَّها مشابهة جدًّا لما مرَّ به الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو الثاني عشر من الخلفاء الذين وعد بهم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), أنَّهم «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ», أو «مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»، كما روى ذلك جمهور المحدِّثين, ولا يخفى على القارئ الكريم أنَّ هناك آيات عديدة تناولت موضوع إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن نحن في صدد بحث الخصائص الخاصَّة بحالات وشؤون العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
علَّة اختفاء النبيِّ موسى (عليه السلام) عن قومه:
عند قراءة سورة القَصَص، وهي إحدى السور التي تستعرض حياة النبيِّ موسى (عليه السلام) بدءاً وانتهاءً، يقول تعالى: ﴿طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (القَصَص: ١ - ٣).
نجد أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد قصَّ قصَّة حُجَّةٍ من حُجَجه، وليس هو نبيٌّ ومرسَل من آحاد أو أوساط المرسَلين، بل هو نبيٌّ من أُولي العزم، فما يتلوه القرآن ويُنبئنا به من حديث النبيِّ موسى (عليه السلام) وفرعون هو إنباء بالحقِّ وليس إنباءً بالكذب والباطل، فكلُّ ما يستعرضه لنا القرآن الكريم هو حقٌّ ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾, وهذه التلاوة والإنباء من الله (عزَّ وجلَّ) عن ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) وفرعون هي ظاهرة يتلوها وينبؤها القرآن الكريم لقوم يؤمنون بوجود مثل هذه السُّنَن الإلهيَّة في حُجَجه، ويؤمنون بهذه السُّنَن الإلهيَّة في الحُجَج المنصوبين لنجاة البشريَّة ولإصلاح الوضع البشري.
إنَّ فرعون هو الظاهرة الأوَّليَّة التي استدعت بعثة النبيِّ موسى (عليه السلام) كمنجٍ ومصلحٍ، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القَصَص: ٤).
وفي الحديث: ذَكَرَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بَلَاءً يُصِيبُ هَذِهِ اَلْأُمَّةَ حَتَّى لَا يَجِدَ اَلرَّجُلُ مَلْجَأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنَ اَلظُّلْمِ، «فَيَبْعَثُ اَللهُ رَجُلاً مِنْ عِتْرَتِي، فَيَمْلَأُ بِهِ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(1).
اُنظر وقع السُّنَن الإلهيَّة, هي نفس السُّنَن, الظهور بالعدل والقسط بعد ما تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، هنا القرآن الكريم أيضاً يذكر لك قاطرة هذه السُّنَن يتلو بعضها بعضاً، هذه الحلقة الأُولى، فالظلم والفساد تفشَّى في الأرض في حقبة الفراعنة، وفي حقبة فرعون أو فرعون الفراعنة، حينئذٍ تأتي السُّنَن الإلهيَّة، وذلك عندما يتفشَّى الفساد وينتشر الظلم.
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصَص: ٥)، فهل هذه الإرادة الإلهيَّة هي إرادة جزئيَّة خاصَّة استثنائيَّة ببني إسرائيل أو ما واكب تلك الحقبة، أو أنَّها في الحقيقة سُنَّة إلهيَّة دائمة؟
هذه في الواقع محطَّة يجب على المؤمن والمسلم عند قراءته القرآن الكريم أنْ يتمعَّن فيها, إذ هي في الواقع إرادة مستمرَّة وسُنَّة دائمة, ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: ٤٣)، سُنَن الله (عزَّ وجلَّ) هي سُنَن واحدة، على إرادة واحدة، على شاكلة واحدة، فلذلك جاءت الإرادة الإلهيَّة في جعل المستضعفين أئمَّة، وهذه سُنَّة دائمة، وسنخوض فيها مليًّا ونُشبعها لأجل تبيان هذه المشاكلة في الظاهرة القرآنيَّة مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
في الدعاء: «حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتّعَهُ - أو في بعض ألفاظ الدعاء: وَتُمَكِّنَهُ - فِيهَا طَويلاً»(2).
﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ﴾ يعني النهج الفرعوني نهج الظلم، نهج الاستعباد، نهج الاستعمار, ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (القَصَص: ٦).
وهنا تبدأ البيئة التي بُعِثَ فيها النبيُّ موسى (عليه السلام) لأجل الإنجاء والإصلاح، وهي بيئة تفشَّى الظلم والفساد فيها، وبالمقابل تأتي السُّنَّة الإلهيَّة، لكي تكون العاقبة للإصلاح.
نعم، ظاهرة خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) الذي كان يترقَّبه بنو إسرائيل كمنجٍ ومصلحٍ لهم، وإنْ كنَّا لم نستوفِ تمام الكلام عن سُنَّة الله في الإصلاح بعد تفشِّي الفساد والظلم كما تشير إليه الآية السابقة، ففي كلِّ زمانٍ ومكانٍ بعد تفشِّي الفساد والظلم فيه، هناك إرادة وسُنَّة إلهيَّة في جعل المستضعفين أو من المستضعفين أئمَّة وارثين متمكِّنين في إدارة وتدبير الأرض.
لكن في البدء المستهلِّ في خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) اُنظر كيف يستعرضها لنا القرآن الكريم، وما هي أسباب خفاء ولادة هذا المنجي، كأنَّ تلك السُّنَّة أو تلك السُّنَن تتكرَّر وتعاود الوقوع الفينة بعد الأُخرى، وهذا هو مغزى استعراض القرآن الكريم لذلك، فالنبيُّ موسى (عليه السلام) رغم أنَّه هو المنجي الموعود لبني إسرائيل في تلك الحقبة، وهو المصلح لهم، وهو المنقذ لهم من استعباد الفراعنة وإفسادهم في الأرض، جعل الله ولادة هذا المنجي وهذا المصلح في خفاء وغيبة وسرّيَّة، ليس فقط عن فرعون والفراعنة والجهاز الحاكم على البلاد الباطش في العبيد والبشر، بل في خفاء حتَّى عن مريدي النبيِّ موسى (عليه السلام) والمؤمنين به والمتوقِّعين لظهوره وإنجائه وإصلاحه، فجعل ولادته في خفاء، ورغم هذا الخفاء لم يخل ذلك باعتقاد المؤمنين من بني إسرائيل في كون النبيِّ موسى (عليه السلام) هو حجَّة من قِبَل الله تعالى، موعود منصوب لنجاتهم وإنقاذهم من براثن الفساد والظلم الفرعوني.
إذن هذه أوَّل أدبيَّة قرآنيَّة، أو حقيقة قرآنيَّة يستعرضها لنا القرآن الكريم، وهي أنَّ خفاء ولادة الحُجَج لا يتصادم ولا يتقاطع مع الاعتقاد بحجّيَّتهم، وبحجّيَّة ذلك المنجي المتوقَّع ظهوره أبداً.
الخفاء أدلُّ على الحجّيَّة:
بل هذا الخفاء أدلُّ برهانٍ على حجّيَّة الموعود للإنجاء، لماذا؟
لأنَّ الحجَّة بطبيعته سيصطدم مع قوى الظلم ومع سطوة وسلطات المفسدين في الأرض، ومن الواضح أنَّهم سوف يقعون في معترك وتصادم معه, ومن الطبيعي أنَّهم سيضعون برنامجاً لتصفية ذلك المصلح.
وعليه فمن الطبيعي أنْ يكون في برنامج العناية الإلهيَّة ومخطَّط القدرة الربَّانيَّة إخفاؤه بدءاً من الولادة، اُنظر ماذا يقول لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام): ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القَصَص: ٧).
حيث يكشف لنا من خلال هذه الآية عن جوٍّ مليئ بالإرهاب والخوف، وأنَّ المصلح ومنذ بدو تولُّده ولأنَّه موعود بإصلاح قومه ونجاتهم من براثن الفساد والظلم، ومن ثَمَّ فإنَّ قوى الظلم وقوى البطش تريد أنْ تحيق به عن طريق الإعدام والإبادة من بدء الولادة، ومن ثَمَّ تكون هناك عناية إلهيَّة في خفاء الولادة.
فإخفاء الولادة ليس أمراً أُسطوريًّا في الحُجَج، بل هو حقيقة يستعرضها لنا القرآن الكريم, وهي أنَّه قد يكون نبيٌّ مرسَل من أُولي العزم موعوداً بكونه هو المنجي وهو المصلح وهو المنقذ لبني إسرائيل من براثن الظلم والفساد في الأرض، ومع ذلك تخفى ولادته, لماذا؟
لأنَّ ذلك أمر طبيعي يتعقَّله العقل الإنساني في أنَّ بشائر ذلك المصلح الموعود المنجي الذي تنتظره قلوب المؤمنين في تلك الحقبة، سوف تُعبَّأ ضدَّه إرادة الظلمة والأنظمة.
العنف والاضطهاد ضدَّ الإمامين العسكريَّين (عليهما السلام):
اُنظر إلى حياة الإمام عليٍّ الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام)، حيث استُدعيا من المدينة المنوَّرة مدينة جدِّهما من قِبَل أكبر دولة عظمى آنذاك في الكرة الأرضيَّة وفي البشريَّة وهي الدولة العبَّاسيَّة, وجُعِلَا سجينين عسكريَّين، إذ كانت سامرَّاء والتي تُسمَّى بـ (سُرَّ من رأى) أكبر قاعدة عسكريَّة ربَّما في الكرة الأرضيَّة لدولة عظمى لما يقارب من ثلاثين أو أربعين دولة في الوضع الراهن من ناحية المساحة، إذن هي دولة بهذا الاتِّساع وبهذه القوَّة وبهذا البطش وهذه السطوة، والقاعدة العسكريَّة لهذه الدولة كانت سُرَّ من رأى، ولـمَّا يُسجَن الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) في مدينة عسكريَّة ذات أهمّيَّة كهذه يتَّضح جليًّا أنَّ النظام العبَّاسي كان عنده تعبئة واستنفار وخوف خاصٌّ واصلٌ إلى درجة تعبويَّة قصوى يجعل من ذلك الطرف ليس سجيناً مدنيًّا وليس سجيناً سياسيًّا فحسب، بل يجعله سجيناً عسكريًّا, وهذا خوف مسلَّم به من ذلك الشخص، والمحاكمة التي يحاكم بها محاكمة عسكريَّة وليست محاكمة سياسيَّة ولا محاكمة مدنيَّة، لأنَّها لا تخضع لقوانين ولا لأُصول, ما السبب في ذلك؟
وهذا أوَّل دليل وأكبر شاهد تاريخي في سيرة المسلمين عرفه المسلمون عن تخوُّف السلطة العبَّاسيَّة من ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه). وهو أنَّ الإمام عليًّا الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) سُجِنَا في أكبر معسكر على وجه الأرض في ذلك الوقت، وجُعِلَا سجينين عسكريَّين تحت رقابة الحكم العسكري، وإنَّ هذا الاستنفار التعبوي في درجته القصوى يشبه إلى حدِّ التطابق تلك التعبئة التي اتَّخذها فرعون تجاه المصلح وهو النبيُّ موسى (عليه السلام), هنا تشاكلت السُّنَن بين حُجَج الله.
إذن خفاء ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وما أنِسَه وعرفه المسلمون والمؤمنون من أمرها في ظلِّ تلك الظروف التي استُدعي فيها الإمام الهادي وهو الإمام العاشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام), وما كان ذلك إلَّا لِتَحسُّب الدولة العبَّاسيَّة آنذاك من ظهور هذا المصلح الموعود الذي روى الفريقان فيه ما يقرب من اثني عشر ألف حديث.
إذن الحديث متواتر في ذهنيَّة المسلمين، في أنَّ هناك مظهراً مصلحاً منجياً منقذاً للبشريَّة عموماً، وهذا محور آخر عسى أنْ نُوفَّق لنستعرض الوعود القرآنيَّة الدالَّة على ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه هو الذي يُظهر الدِّين على أرجاء الكرة الأرضيَّة كافَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) العمدة لابن بطريق (ص ٤٣٦/ ح ٩١٨).
(2) الكافي (ج ٤/ ص ١٦٢/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح ٤)، تهذيب الأحكام (ج ٣/ ص ١٠٢ و١٠٣/ ح ٢٦٥/٣٧).
المصدر : الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والظواهر القرآنية ـ تأليف : سماحة الشيخ محمد السند.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة