منهج المشككين بوجود الإمام المهدي (عج) ؟

, منذ 2 سنة 650 مشاهدة

ينطلق المنكرون للإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) من دوافع ومنطلقات لا تنسجم مع منهج الإسلام العام في طرح العقائد والدعوة إلى الإيمان بها. فمنهج الإسلام الذي يعتمد على العقل والمنطق والفطرة، يقوم في جانب مهم منه على ضرورة الإيمان بالغيب. 
وتتكرر الدعوة في القرآن الكريم إلى ذلك، إذ هناك عشرات الآيات (1) التي تتحدث عن الغيب والدعوة إلى الإيمان به، والمدحة عليه كما في قوله تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب) البقرة: 2 - 3، وفي الحديث النبوي الشريف (2) كذلك، إذ هناك مئات الروايات وبصور متنوعة وعديدة وكلها تؤكد الإيمان بالغيب وعلى أنه جزء لا يتجزأ من العقيدة، وأن هذا الغيب سواء تعقله الإنسان وأدرك جوانبه أو لم يستطع إدراك شيء منه وخفيت عليه أسراره، فإنه مأمور بالإيمان، غير معذور بالإنكار، بلحاظ أن مثل هذا الإيمان هو من لوازم الاعتقاد بالله تعالى، وبصدق سفرائه وأنبيائه الذين ينبئون ويخبرون بما يوحى إليهم، كما هو الأمر في الإيمان بالملائكة وبالجن وبعذاب القبر وبسؤال الملكين (منكر ونكير) وبالبرزخ (3) وبغير ذلك من المغيبات التي جاء بها القرآن الكريم أو نطق بها الرسول الأمين ونقلها إلينا الثقات المؤتمنون. وإذن فكل تشكيك بشأنها - أي قضية المهدي - إنما يتعلق بأصل التصديق بالغيب، والكلام فيه يرجع إلى هذا الأصل.
ومن هنا حاول المنكرون لعقيدة المهدي (عليه السلام) أن يهربوا، وينأوا بأنفسهم عن طائلة ذلك الاعتقاد، فلجأوا إلى التشكيك بالأخبار الواردة بشأنه أو تضعيف أسانيدها كما فعل ابن خلدون في تاريخه في الفصل الثاني والخمسين الذي عقده في أمر الفاطمي، حيث ضعف الأحاديث المروية في المهدي مع اعترافه بظهور المهدي آخر الزمان، وبصحة بعض الأحاديث المروية بشأنه. وتبعه عدد من المقلدين أمثال علي حسين السائح أستاذ كلية الدعوة الإسلامية في ليبيا في بحثه (تراثنا وموازين النقد) (4) إذ تعرض فيه لموضوع المهدي المنتظر، وتعلق بالخيوط العنكبوتية التي نسجها ابن خلدون حول عقيدة المهدي، وحسب أنه لجأ إلى ركن شديد، وأنه سيرقى عليها إلى السماء، غافلا عن أنه تشبث بأوهن البيوت.
وعندما اصطدم هؤلاء بعدم إمكانية رد تلك الروايات أو تضعيفها لكثرتها، وتعدد طرقها، وصحة أسانيد عدد كبير منها كما أثبتها أئمة الحديث (5)، لجأوا مرة أخرى إلى إحاطة أمر المهدي بالأساطير التي اخترعوها، كاختراعهم أكذوبة السرداب التي لا أصل لها عند المعتقدين به، وقد ناقشها الشيخ العلامة الأميني مناقشة وافية أبان فيها تخبط الخصوم في الأساطير التي نسجوها تارة في موقع السرداب - إذ اختلفوا فيه اختلافا مضحكا - وتارة أخرى في مواقف الشيعة وطقوسهم المزعومة حول السرداب (6).
ولجأ آخرون إلى إنكار ولادته (7) الميمونة بإغراء ذوي المطامع (8) أو الطموح السياسي والاجتماعي لتبني هذا الإنكار والإفادة منه، إلى غير ذلك من التعلقات الواهنة التي تسقط لدى عرضها على الحقائق الوفيرة، فضلا عن مقتضيات الأحاديث الصريحة الصحيحة.
وبالجملة فإن منهج المشككين لم يخرج عن مثل تلك المنطلقات والتوهمات أو المغالطات المنكرة، فضلا عن تعارضه مع الأصول المعتبرة الدينية والروائية.
ولعل من المناسب أن نورد ضمن هذا المنهج ما ذهب إليه بعض المعاصرين من أمثال إحسان إلهي ظهير (9) والبنداري (10) والسائح، ومن احتذى حذوهم، وقلدهم تقليدا أعمى من المنسوبين إلى الشيعة.
وملخص ما أثاروه واستندوا إليه أمور نذكرها كما وردت على ألسنتهم، ثم نناقش أسس مدعياتهم ومنهجهم، وذلك كما يأتي:
1 - قالوا: إن الشيعة وقعوا في حيرة واضطراب بعد وفاة الإمام العسكري، وخاصة فيما يتعلق بولادة الإمام المهدي (محمد بن الحسن)، لوجود الغموض فيما ورد عنه من طريق الأئمة (عليهم السلام) عندما سئلوا عنه.
2 - قالوا: إن الشيعة انقسموا وتفرقوا إلى أربع عشرة فرقة في مسألة الإمام بعد وفاة الإمام الحسن العسكري، وأن أمر الإمام المهدي لو كان واضحا ومهما وجزءا من المذهب الجعفري لما جاز الاختلاف فيه، ولما أمكن أن يبقى أمره سرا غامضا.
3 - زعموا أن الروايات التي تتحدث عن هوية الإمام المهدي ضعيفة وموضوعة ومختلفة، سواء منها ما يتعلق باسم أمه، أم بتاريخ ولادته، أم بما لابس ولادته، أم بغيبته وسفرائه.
وقد ختم أحدهم تخرصاته زاعما بأنه لم يرفض إماما ثبت وجوده من أهل البيت، إنما حصل عنده شك بولادة الإمام الثاني عشر، لعدم توفر الأدلة الكافية - بحسب زعمه - أو لعدم قناعته بها أي بالأدلة المذكورة، وذكر أنه لا يستبعد أن يطيل الله عمر إنسان كما أطال عمر النبي نوح (عليه السلام)، بالرغم من عدم الحاجة والضرورة إلى ذلك. وأنه يبحث عن الأدلة التي تثبت أن الله تعالى قد فعل هذا بشخص آخر، لأنه لا يمكن أن يعتقد بحدوث هذا عن طريق القياس والتشبيه، ثم قال: " وقد كان سيدنا الصادق يرفض القياس بالأمور الفرعية الجزئية فكيف في الأمور التاريخية والعقائدية ".
هذا ملخص ما أوردوه وانفتقت به عبقرياتهم وهم يحسبون أنهم جاءوا بما لم يتنبه إليه الأوائل.
وردا على هذه الإشكالات، وجوابا عن هذه الإثارات، نقول:
أولا - إن وجود الغموض في تحديد هوية الإمام المهدي، ووقوع الحيرة لدى الشيعة - لو صح كما صوره الخصم وضخمه - هو دليل على الخصوم وليس لهم، إذ عدم تحديد الهوية والإصرار على بقاء الأمر سرا دليل على وجود الإمام والخوف عليه من الأعداء لا على عدم وجوده، كما توهموا.
فالأئمة (عليهم السلام) - كما وردت الروايات (11) - لم يريدوا الكشف عن التفاصيل المتعلقة بحياة الإمام المهدي وولادته الميمونة، لمعرفتهم بتكالب الأعداء في طلبه، وجدهم وتربصهم به، وقد كانوا يبثون العيون ويترصدون كل حركة للعثور على الإمام والتخلص منه، بعد أن أيقنوا بالأمر وشاهدوا ترقب الأمة وتطلعها لمقدمه الشريف ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا.
وكيف لا يحرص الأئمة (عليهم السلام) على حياته العزيزة، وقد فعل سلاطين الجور الأفاعيل، وارتكبوا الحماقات والشناعات بحق أهل البيت وذرية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ طاردوهم وسجنوهم وأذاقوهم التشريد والقتل أخذا بالظنة والتهمة والوشاية المغرضة، ودونك التاريخ فاقرأ في (مقاتل الطالبيين) للأصفهاني العجب العجاب.
وإذن فكيف يكون الحال وقد اطلع هؤلاء السلاطين على الروايات في صحاح المسلمين ومسانيدهم عن المهدي من العترة الطاهرة، ومن ذرية فاطمة ومن أولاد الحسين تحديدا، وأنه سيظهر ليملأها قسطا وعدلا، فهذه المعرفة اليقينية قد خلقت شعورا قويا لدى الحكام الظلمة بأن عروشهم ستنهار. وكان هذا الهاجس هو الذي يفسر لنا تلك الإجراءات الغريبة وغير الاعتيادية التي اتخذتها السلطة الحاكمة عند سماع نبأ وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مباشرة، وليس هناك من تفسير معقول سوى اعتقادهم بوجود الإمام الثاني عشر الحجة ابن الحسن، وأنه الإمام الموعود كما نطقت به الأخبار المتواترة لدى السنة والشيعة، ولذا أسرعوا إلى دار الإمام (عليه السلام) واتخذوا مثل تلك الإجراءات الاستثنائية بدءا من التفتيش الواسع والدقيق، إلى حبس جواري الإمام وإخضاعهن للفحص (12)، كل ذلك في محاولة يائسة للقبض على الإمام. ولا عجب فقد حصل ذلك من نظرائهم، وحدثنا القرآن الكريم عن فعل فرعون للقبض على النبي موسى (عليه السلام) فنجاه الله من الكيد.
ومن هنا نفهم السبب في إخفاء الإمام الصادق (عليه السلام) هوية المهدي والتفاصيل المتعلقة بهذا الأمر.
وليست الحيرة بعد ذلك والاضطراب إلا حالة طبيعية في ظل مثل تلك الظروف والملابسات الخاصة التي رافقت قضية المهدي (عليه السلام) في وجوده وولادته، وشغب السلطة وتمويهاتهم وإعلامهم الزائف. وإذن فليست (الحيرة) إلا بسبب تلك الظروف والملابسات، فضلا عن أن الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) قد أشارت إلى وقوع مثل هذه الحيرة والفتنة والتفرق، كما نقل ذلك ابن بابويه القمي في (التبصرة)، والشيخ النعماني في (الغيبة) الباب الثاني عشر.
ثانيا - قولهم بضعف الروايات واختلاقها، ولا ندري هل أنهم يفرقون بين الضعيف والموضوع أم هما عندهم سواء؟ ثم لماذا هذا الخلط المقصود بين مسألة وجود الإمام الحجة الثابتة بالطرق الصحيحة وبين بعض الروايات التي تلابس (حدث الولادة)؟ والعجب من ركوب هؤلاء جميعا هذه الجرأة المفضوحة إذ إن روايات (المهدي) لم تروها كتب الشيعة فحسب، ولم ترد عن طرقهم فقط، وإنما روتها الصحاح والمسانيد والجوامع الحديثية المعتبرة كصحيح أبي داود، وصحيح البخاري وشروحه، ومسند أحمد بن حنبل، وجامع الطبراني، وجمعها السيوطي في العرف الوردي (13) من عدة طرق، وحكى تواترها البرزنجي في الإشاعة (14)، وكذا الشوكاني في التوضيح (15)، ونقل ذلك أخيرا الشيخ منصور علي ناصف في غاية المأمول (16).
فانظر إلى جهل المشككين كيف رموا ما صح وتواتر عند جمهور المسلمين من السنة والشيعة بالوضع والاختلاق واعجب لجرأتهم وشغبهم! إذ لا يصح بعد ذلك شئ مما تناقله الرواة من حوادث التاريخ، وأسماء الأعلام، وآراء المذاهب المختلفة.
ثالثا - استدل بعضهم على نفي وجود الإمام المهدي وولادته بقوله: إن الشيعة اختلفوا في المهدي وانقسموا - على حد زعمه - إلى سبع عشرة فرقة بعد وفاة الحسن العسكري (عليه السلام)، وهذا يدل - بحسب زعمه - على عدم وجود الإمام!!
ولعل من المناسب أن ننبه إلى أن الاختلاف حول موضوع أو قضية أو شخص لا يستلزم العدم، إذ لو جرينا على هذا المنطق لما قامت عقيدة، ولا ثبت دين، ولا استقام شأن من الشؤون، فالاختلاف قائم دائم في العقائد، وفي التواريخ، وفي الشخصيات، وفي الحوادث الواقعة، وفي الفروع، وفي سائر الأمور. وقد تفرق أبناء الفرقة الواحدة إلى فرق وطوائف واتجاهات وآراء كما حدث عند المعتزلة والخوارج والأشاعرة (17) وغيرهم.. ثم ألم تسمع بما تناقله أهل الحديث من الرواية المشهورة وهي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) "... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " (18).
ــــــــــــــــــ
(١) راجع: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن مادة (غيب). وراجع التفاسير ومنها تفسير ابن كثير المجلد الأول في تفسير أول سورة البقرة.
(٢) راجع كتاب الفتن وعلامات الساعة في الصحاح والمسانيد والسنن. راجع مثلا: التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول / الشيخ منصور علي ناصف 5: 300 وما بعدها.
(3) راجع: التاج الجامع للأصول 1: 25.
(4) البحث نشر في مجلة كلية الدعوة الإسلامية الصادرة في ليبيا، وراجع مناقشته في بحث السيد الجلالي المنشور في مجلة تراثنا المذكور سابقا.
(5) راجع: دفاع عن الكافي / ثامر هاشم العميدي ١: ٢٠٣ وما بعدها، فقد أورد مناقشة العلماء وأئمة الحديث لتضعيفات ابن خلدون والمقلدين لرأي ابن خلدون، كما ناقش هو تلك التضعيفات مناقشة علمية متينة أبان فيها تهافتهم وعدم تبصرهم ومعرفتهم بفن الرواية وأصول الدراية.
(6) راجع: الغدير ٣: ٣٠٨ - ٣٠٩، وراجع ما أورده العميدي من مناقشات متينة لهذه الفرية في دفاع عن الكافي ١: ٥٩٣، وراجع: سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني 2: 559.
(7) راجع: دفاع عن الكافي: ١: ٥٦٩ فقد أورد المؤلف شهادات واعترافات وإثباتات وافية عن علماء أهل السنة من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر في إثبات ولادة الإمام المهدي واستمرار حياته ووجوده الشريف.
(8) راجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 345، وراجع أيضا سيرة الأئمة الاثني عشر / الحسني 2:
534 - 538 في قضية جعفر الكذاب.
(9) راجع الشيعة والتشيع - فرق وتاريخ: ص 261 و 301 / الطبعة الثانية 1384 ه‍ - باكستان.
(10) راجع التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي / الطبعة الثانية - دار عمار - الأردن.
(١1) راجع: الغيبة للنعماني من أعلام القرن الرابع الهجري / الباب ١٢، الغيبة الكبرى / السيد محمد الصدر / البحث التمهيدي.
(12) الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 345.
(13) راجع الحاوي للفتاوي / السيوطي 2: 213 وما بعدها.
(14) الإشاعة لأشراط الساعة: ص 87 - 122 / الباب الثالث.
(15) التوضيح في تواتر ما جاء من الأحاديث في المهدي والدجال والمسيح، كما في غاية المأمول.
(16) غاية المأمول شرح التاج الجامع للأصول ٥: ٣٦٠.
(17) راجع: مقالات الإسلاميين للأشعري، والملل والنحل للشهرستاني، وفرق النوبختي وغيرها.
(18) راجع هذه الرواية وغيرها في سنن ابن ماجة ٢: ١٣٢١ / ٣٩٩١ كتاب الفتن - باب افتراق الأمم.
المصدر: السيد محمد باقر الصدر، البحث حول المهدي عجّل اللّه فرجه، ج١، ص13-21.

 

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.0592 Seconds