الشيخ إبراهيم الأنصاري البحراني
إنَّ كلمة الانتظار تدُّل على حالتين كامنتين في روح المنتظر، فمع التأمَّل في هذه الكلمة نشاهد أنَّها تدلُّ على جانبين أساسيين (إيجابيٌ وسلبيٌ) لكل منهما دور مهمّ في معنى الكلمة وهذان الجانبان هما:
1- الإيجابي: الجانب المطلوب و المحبوب للمنتظِر و المتوقَّع الوصول إليه وهو الخير والبركة وتمكين الدين على الأرض كلِّه فلو لم يتوقع حدوث حالة جديدة و إيجابية في المستقبل فلا مصداقية للانتظار ولا معنى له.
2- السلبي: الجانب غير المطلوب و غير المحبوب الذي يتمثَّل في الحالة الفعلية التي يعيش فيها المنتظر تلك الحالة المُؤذية التي يأمل المنتظر أن يتخلَّص منها، فلو كان الوضع الفعلي هو الوضع المطلوب فلا معنى للانتظار إذاً ولا مبرر له.
وبعبارة أوضح: هناك تناسب عكسي بين أمرين هما:
1- اليأس من الحالة الفعليَّة المعاشَة.
2- الرغبة في الحالة المستقبليَّة المتوقعة.
هذا ما يستفاد من نفس الكلمة من دون النظر إلى أي أمرٍ آخر خارج الكلمة وتشهد لهذه الحقيقة الآية الكريمة التِّي وردت في هذا المجال حيث المعنى والسياق وحيث الأحاديث الدالَّة على ذلك:
قال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون[1]).
فالآية الكريمة تشير إلى الجانبين المتواجدين في نفس المضطر:
1- سوءٌ غير مكشوف وهو السوء المطلق الذي من خلاله حدثت سائر مصاديق السوء وهذا السوء يتمثَّل في أمرٍ واحد وهو أنَّ خلافة الأرض ليست بيد المُضطَر.
2- وهناك توقُّع ورجاء و رغبة كامنة في نفس المضطر وهي أن تكون الخلافة العامَّة على جميع الأرض له ولمن يقتدي به ويخطو خطاه.
وأمّا الحديث عن شخصيَّة المضطر وأنَّه من هو؟ فهو خارج عن بحثنا ههنا ولكن قوله تعالى (ويجعلَكم خلفاء الأرض) يُنبأنا عن حقائق كثيرة.
فلا يمكن للمؤمن ممارسةُ عمليةِ الانتظار إلاّ بعد عرفان أمرين متلازمين:
الأول: وهو الأصل والأهم ويتمثَّل في معرفة تلك الخلافة الإلهيَّة وهذا هو التولِّي.
الثاني: وهو تابعٌ وملازم للأصل وهو معرفة السوء الذي يتمثَّل في الواقع الفعلي ومن ثمَّ التبرِّي منه.
وكلا الأمرين يفتقران إلى الوعي والتدبُّر والدقَّة فنقول:
إنَّه من الأفضل أن نبدأ بالأمر الثاني أعني معرفة السوء ورفضه تحت عنوان الإنتظار والرفض ثمَّ نتحدَّث عن الأمر الأوَّل تحت عنوان الانتظار والرجاء.
الانتظار والرفض
إنَّه من الضروري لمن يعيش حالة الانتظار أن يعرف مدى انحراف الواقع الفعلي عن الحقيقة والصواب وينبغي أن يصل إلى مستوى من الانزجار والتنفُّر بحيث يحسّ بأنَّه بالفعل سجين في هذه الدنيا وبالفعل هو مقيّدٌ بأنواع القيود التِّي لا مفكَّ منها ولا مفرّ إلاّ بظهور المنجي الحقيقي وهو الحجة بن الحسن المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).. وينبغي له أن يشعر بأنَّ المشكلة التِّي يعيشها ليست هي مُشكلةٌ جزئيَّة يمكن التحرِّي عنها والتخلُّص منها بسهولة بل هي مُشكلةٌ كبيرة ومعضلةٌ عظمى قد رسَّخت جذورَها في جميع الأرجاء ونشرت سمومَها في كافة الأنحاء، فنحن عندما نلاحظ المجتمع نري أنّ أبشع أنواع الظلم يسوده فلا حرية فكرية تحكم الناس ولا إرادة يمارسونها وإن كانوا يتصورون أنهم أحرار.
فعلى سبيل المثال نشاهد أنَّ الأجهزة الإعلامية العالميَّة تجسِّد الباطل وكأنَّه الحقّ وتصوِّر الكذب وكأنه الصدق وكل شيء حول الإنسان مزيَّف ولكنَّه لا يشعر بهذه المشكلة التي وقعت عليه فلا يفكر إذاً في تبديل ما هو عليه من الانحراف والإغفال.
فإذاً للتعجيل في فرجه (عليه السلام) ولإيجاد الداعي في المجتمع يجب أن ينتشر وعلى الأقلّ الشعور بالمظلوميَّة كي يعلم الإنسان ويحس بكلِّ وجوده بأن الظلم قد شمله هو أيضاً حيث يعيش تحت ظلّ تلك الشجرة الخبيثة التّي أسَّستها السقيفة حيث ظهر الفساد في البرِّ والبحر ومن ثمَّ سوف يفكر في إنقاذ نفسه من هذه المشكلة.
وينبغي للإنسان أن يعرف أنَّه لا محيص ولا مناص إلاّ بتوجُّهه (عليه السلام)، ومن ثمَّ بظهوره ومباشرته للحلّ بأسلوبه الملكوتي، وعليه أن يدرك هذه الحقيقة بجميع وجوده بروحه ودمه وجسمه وجوارحه بحيث لا تمرُّ عليه ساعة بل لحظة إلا وهو يشعر بفقدان النور وباستيلاء الظلام على الكون وهذه الحالة لا تحصل له إلا بالمعرفة أعنى معرفة الله و معرفتهم (عليهم السلام) ودولتهم المباركة فلا بد أن يكون على بصيرة من أمره حيث أن الأعمى لا يمكنه أن يدرك النور مهما شُرِح له، وهذه المعرفة تلازمها معرفة أخرى وهي معرفة أساليب الأعداء الشيطانيَّة و مستوى عداوتهم للحق وانحرافهم عن الواقع وبعدهم عن الله تعالى، وعند وصول المؤمن إلى هذه المرحلة من الوعي والإدراك ينبغي له أن يلتزم بواجب هو من أهمِّ الواجبات ألا وهو التبري من أعداء الله.
ثمَّ إنَّ هذه الحالة النفسية أعني الرفض سوف تكون لها آثار إيجابيَّة في أخلاقه وأعماله تجعله يشتاق إلى ما سيحقَّق من النصر وتمكين الحق وهكذا سوف يزداد الاشتياق إلى أن ينقلبَ إلى قرارٍ حاسمٍ ومن ثمَّ إرادة جدِّية وطلب مؤكَّد وحينئذ سوف يراه المهدي عليه السلام (متى ترانا) ومثل هذا الإنسان سوف يتفاجأ برؤيته (عليه السلام) فلا يرى نفسَه إلاّ ويعيش دولته العظيمة وظلَّه الملكوتي المبارك (..ونراك وقد نشرت راية الحق تُرى)
الرفض من العبادات الاجتماعية
إنَّه من النتائج الخبيثة والآثار السيِّئة التي نشأت جرّاء عزل الدين عن المجتمع و فصلة عن الحُكم خلال قرونٍ متواليةٍ، هو تحريف المفاهيم الدينية وتفسيرها تفسيراً مؤطَّراً بإطار الفرد لا يتخطاه قيد أنملة وكأنَّ الدين لا يمسُّ المجتمع بصلة، وهذه الآفة قد تسرَّبت بشدّة في تقييم المفاهيم الأخلاقية الواردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، فقد فُسرَّت جميعها أو أكثرها تفسيراً فردياً وكأنها لا علاقة لها بالمجتمع ولا مساس لها بالأمَّة وكأن الغاية من بعث الرسل وإنزال الكتب هو إيصال الأفراد كأفرادٍ إلى الكمال المطلوب ليس إلاّ.
ومن المؤسف أنَّ هذا النوع من التفسير مع غاية بعده عن روح الإسلام صار كالبديهي عند أكثر المسلمين حتى عند علماء الإسلام، وقد تركزت هذه الأفكار في المجتمع-من خلال هؤلاء الجهلة- تركيزاً شديداً بحيث أصبح كلُّ من يخالفها من جملة الشاذِّين عن الدين وفي زمرة المنحرفين عن الصراط المستقيم!! وبالنتيجة من المطرودين والخارجين عن ربقة الإسلام والمسلمين.
هذا والقرآن بصريح العبارة يبيِّن السرّ في بعث الرسل بقوله:
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز[2]).
ومن الواضح أنَّ للحديد الذي هو كناية عن القدرة دورٌ مهم وأساسي في بناء المجتمع فهو الساعد الآخر الذي يضمن تنفيذَ قوانين الدين بعد الإيمان بالله. ولم يكتف القرآن بذلك بل حرَّضَ كافة المؤمنين بالقيام بالقسط فقال:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله).
وعلى ضوئه: ينبغي أن لا ننظر إلى المفاهيم الإسلامية من منظار فردي فحسب بل لا بد أن يكون المنظار الاجتماعي هو الحاكم و هو المخيم على التحليلات الإسلاميَّة والمفاهيم الأخلاقية.
فمثلا: التقوى ليس هو مفهوم أخلاقي فردي فحسب بل هو مفهوم اجتماعي أيضا فهناك تقوى في الإنسان كفرد و هناك تقوى أهمّ وهو التقوى بمفهومه الاجتماعي الذي يرجع إلى الأمة المؤمنة ولكلٍ منهما أثره الخاص به ولكل جزاءه المترتب عليه وثوابه المنسجم معه.
وكذلك مفهوم الإيثار و الإخلاص و الكرم و الجود و الغيرة و الشجاعة وغيرها من القيم الإنسانية الإسلامية.
نفس الحديث يتأتّى في المفاهيم اللا إنسانية و القيم اللا أخلاقية و اللا إسلامية..كالبخل و الرياء والنفاق و الخيانة والشره والجبن وغيرها من المفاهيم.
نعم هناك بعض المفاهيم (وهي قليلة) يتغلب عليها الجانب الفردي كما أن هناك مفاهيم يتغلب عليها الجانب الاجتماعي، و لكن هذا لا يعني أن نتمسك بها كمفاهيم خاصّة فرديَّة.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة