السيد منير الخباز
استدلَّ علماء الإماميَّة على وجوب نصب الإمام بقاعدة تُسمَّى (قاعدة اللطف), والتي تنصُّ على وجوب نصب الإمام بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وهذا الكلام يتكوَّن من مقدَّمتين:
المقدَّمة الأُولى: أنَّ الإمام (عليه السلام) لطف, حيث إنَّ وجوده أمر يُغذِّي حاجة المجتمع البشري الذي يحتاج إلى من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, ويقضي بين الناس بالعدل, ويقيم الحدود والتعزيرات, وينشر العدالة بين أبناء المجتمع.
إذن المجتمع البشري محتاج إلى وجود الإمام (عليه السلام), فوجود الإمام لطف؛ لأنَّه يُغذِّي هذه الحاجة.
والمقدَّمة الثانية: أنَّ اللطف واجب الصدور من الله (عزَّ وجلَّ)؛ لأنَّ وجود إمام (عليه السلام) ينشر العدل, ويأمر بالمعروف, وينهى عن المنكر, ويقضي بين الناس, ويهدي المجتمع إلى الخير هو لطف. لكن هل هذا اللطف واجب؟ نعم, اللطف واجب. لِمَ؟ لأنَّ المجتمع البشري محتاج إلى وجود إمام عادل, آمر بالمعروف, ناهٍ عن المنكر, فعدم نصب الإمام من قِبَله تعالى يعود إمَّا لجهله, وإمَّا لعجزه, وإمَّا لبخله, وليس عندنا شقٌّ رابع.
فعدم نصبه تعالى للإمام (عليه السلام) إمَّا بخل أو جهل أو عجز, والله تعالى منزَّه عنها جميعاً, فيكون مقتضى نزاهة الله عن الجهل وعن العجز وعن البخل أنَّه يجب نصب الإمام بين الناس, فنصب الإمام بين الناس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واجب الصدور من الله؛ لأنَّه لطف.
ونتيجة هاتين المقدَّمتين أنَّ نصب الإمام واجب.
هكذا استدلَّ الإماميَّة على ضرورة نصب الإمام بعد النبيِّ.
شبهة نقض الغرض:
وهنا يَرِدُ سؤال يقول: بناءً على الدليل الذي ذكرتموه للاستدلال فإنَّ غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) نقض للغرض, ونقض الغرض قبيح, والقبيح محال على الله تبارك وتعالى، على أنَّ الغرض من نصب الإمام والهدف من نصبه هو أنَّ الإمام يأمر بالمعروف, وينهى عن المنكر, ويقضي بين الناس, ويُبلِّغ الأحكام الشرعيَّة, أليس هذا هو الغرض؟ هذا الغرض لا يمكن تحصيله مع غيبة الإمام, ولو كان الإمام حاضراً بين الناس لقام بالغرض, إذ لو كان الإمام موجوداً بين أظهر الناس يرونه ويعرفونه ويراهم ويعرفهم لكان وجوده محقِّقاً للغرض, أمَّا إذا كان غائباً فغيبته ناقضة للغرض, فغيبته تماماً عكس الهدف وعكس الغرض؛ لأنَّه ما لم يكن حاضراً بين الناس فإنَّه غير قادر على إقامة العدالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذن, غيبة الإمام نقض للهدف, ونقض الهدف قبيح.
لماذا؟
مثلاً إذا أراد إنسان تأسيس مسجد لغرض العبادة, ثمّ استخدمه كورشة للحدادة أو للنجارة, فهل يصحُّ ذلك؟ إنَّه نقض للغرض، كذلك الله سبحانه وتعالى نصب الإمام لغرض إقامة العدالة, والغيبة تنقض هذا الغرض, ونقض الغرض قبيح, والقبيح محال على الله تبارك وتعالى.
إذن فكرة الغيبة فكرة قبيحة يرفضها العقل؛ لأنَّها نقض للغرض, ونقض الغرض محال على الله, فهذه الفكرة في حدِّ ذاتها أمر محال لا يمكن صدوره من الله (عزَّ وجلَّ) , بأنْ ينصب إماماً غائباً مستوراً عن الأعين, هذه الفكرة أمر محال في حدِّ ذاته.
جواب الشبهة:
والجواب عن هذا السؤال بوجهين:
الوجه الأوَّل: الإمام (عليه السلام) شاهد على أعمال الخلائق:
إنَّ الغرض من نصب الإمام - أيِّ إمام كان - ليس هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط؛ لأنَّ مسؤوليَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجب على كلِّ الناس وجوباً كفائيًّا، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: ١٠٤)، والغرض من نصب الإمام ليس هو تبليغ الأحكام الشرعيَّة والقضاء بين الناس وإقامة الحدود والتعزيرات فقط, فهذه وظيفة الفقهاء في عصر الغيبة, كما ورد عن الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه): «وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اَلله عَلَيْهِمْ»(١٥).
إذن الغرض من نصب الإمام ليس هذا ولا ذاك فقط حتَّى يقال: إنَّ هذا الغرض لا يتحقَّق مع غيبة الإمام.
الغرض من نصب الإمام :
مسألة الشهادة على أعمال الخلائق:
أي أنْ يكون شهيداً على أعمال الخلائق, فالآية التي وردت في عيسى بن مريم (عليه السلام) الذي كان إماماً؛ لأنَّ الرُّسُل أُولي العزم كانوا أئمَّة, ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة: ١١٧), مفادها أنَّ الهدف من وجوده بينهم هو الشهادة على أعمالهم, والشهادة على أفعالهم, والغرض من نصب الإمام هو أنْ يقوم بالشهادة, والآية المباركة التي تخاطب النبيَّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: ١٤٣) تُؤكِّد الغرض من وجود النبيِّ والإمام, وهو الشهادة على أعمال الخلائق شهادة حضوريَّة, هذا هو الغرض الأسمى, وليس الأمر بالمعروف وتبليغ الناس الأحكام الشرعيَّة.
ومن الواضح أنَّ الإمام سواءً كان مرئيًّا أو كان غائباً هو قادر على أنْ يقوم بغرض الشهادة, سواءً كان الإمام معروفاً بين الناس أم مجهولاً, حاضراً مع الناس أم غائباً عنهم, هو قادر على أنْ يقوم بالشهادة وأنْ يُحقِّق غرضها.
إذن الغرض من نصب الإمام متحقِّق, وليست غيبة الإمام أمراً ناقضاً للغرض كي تكون الغيبة أمراً محالاً أو أمراً قبيحاً.
الأمر الثاني: أنَّ المترتِّب على نصب الإمام هو حفظ الدِّين:
لكي لا تمتدُّ أيدي التزوير والتلاعب والتحريف إلى الدِّين الإسلامي, وقد ذكرنا فيما سبق قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: ٩) أنَّ المقصود بالذِّكر ليس هو القرآن الكريم فقط, وإنَّما الدِّين السماوي المحفوظ من خلال القرآن الكريم نفسه.
إنَّ الله تبارك وتعالى تعهَّد بحفظ هذا الدِّين, وحفظ الدِّين بأسبابه, ومن أسباب حفظ الدِّين وجود الشخص الخبير بالدِّين كي يكون قادراً على حفظه من أنْ تندسَّ أيدي التلاعب والتزوير والتحريف إليه.
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة