ماذا خسرت البشرية عندما غاب الإمام المهدي (عج) ؟

, منذ 11 شهر 306 مشاهدة

لقد اقتضت الحكمة الإلهية أن لا يقتصر الجزاء علىٰ الأعمال علىٰ الأُخروي منه من عقوبة ومثوبة. فقد جُعلت بعض الآثار ظاهرة في الدنيا بنحو لا دخالة للناس ولا للمعصوم عليه السلام فيه، كالآثار التكوينية التي تترتَّب علىٰ الأعمال وبعضها بنحو يكون للمعصوم أو نائبه أو عدول المؤمنين دخالة فيه كالحدود والديات والقصاص ليكون الجميع مؤثِّراً في تقريب الناس من الطاعة وإبعادهم عن المعصية. فإن لم يكن لتحريكه الأثر الأُخروي كما هو الأغلب من الناس أثَّر فيه الأثر التكويني الدنيوي، مضافاً إلىٰ الجزاء الأُخروي في بعض الأعمال.

وإن كانت الأعمال خطيرة علىٰ المجتمع ضُمَّ إلىٰ ما تقدَّم الجزاء الذي يكون اختيارياً في الدنيا كالحدود والديات. وإن ظهرت أيَّة معصية وإن لم ترجع إلىٰ التجاوز علىٰ حقوق الآخرين لم يثبت لها إلَّا التعزير في الدنيا ما لم تصل إلىٰ حدّ الكفر أو ما هو بمثابة الكفر كسبِّ الله تعالىٰ والمعصومين عليهم السلام. ومع ذلك فالمحصَّل النهائي..

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف: ١٠٣).

(وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (المؤمنون: ٧٠).

وما يقتضيه اللطف الإلهي هو التقريب من الطاعة والإبعاد عن المعصية لا الإجبار عليهما، فالحكمة قاضية بأنَّ طريق التكامل للنوع البشري يمرُّ من خلال قناة التكليف المتقوِّم بالاختيار وإلَّا فقد الابتلاء معناه.

(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان: ٢ و٣).

وأمَّا إجباره علىٰ الالتزام وسلب اختياره فليس منسجماً مع غاية الخلقة.

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: ١٤٩).

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: ٩٩).

نعم إيمان الشخص واستقامته الاختيارية لا يقعان إلَّا بإذن الله تبارك وتعالىٰ.

ثمّ إنَّ بعض الآثار التي تترتَّب علىٰ الأعمال قد تترتَّب علىٰ الفرد دون غيره ولا تعمُّ المجتمع بحسب العادة كالظلم.

(من ظَلم ظُلِم)(1) ولو في عقبه.

وكاجتناب المعاصي المنبثق عن ذكر الله تعالىٰ المؤثِّر في حصول حالة اطمئنان، (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: ٢٨).

وسلب الاطمئنان للعاصي، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (طه: ١٢٤).

وقد تكون الآثار الدنيوية بنحو يعمُّ المجتمع كهطول المطر عند الاستغفار وسعة الرزق، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (نوح: ١٠ _ ١٢).

ومن ذلك حرمانهم من الاتّصال بالإمام عليه السلام، وإذ لم تُعدَم بركات وجود الإمام وإن كان غائباً فالانتفاع به كالانتفاع بالشمس إذاغيَّبها السحاب كما تعبِّر بعض الروايات الشريفة فإنَّ الظهور له بركاته الخاصّة التي تضاف إلىٰ بركات أصل وجوده.

لقد حرمت الأُمَّة من وجود الإمام بين ظهرانيها لترجع إليه عند التباس الأُمور. ويكفيك أن تنظر إلىٰ جهد عشرات الآلاف من طلّاب العلوم الدينية حيث ينصبّ جهدهم الأساسي علىٰ تعلّم الآليات التي تُمكِّن من استنباط الأحكام الشرعية، وهي لا تعدو كونها أحكاماً ظاهرية قد لا تكون مطابقة لحكم الله تعالىٰ في الواقع. فالأحكام الواقعية في معرض عدم الإصابة من خلال الاستنباط. وهذا يعني احتمال فوات المصالح التي دعت إلىٰ تشريع تلك الأحكام الواقعية.

١ ـ ضياع أعمار عشرات الآلاف من الناس وخسارة الأُمَّة لساعات هائلة العدد من خيرة أبنائها أُنفقت في استنباط الأحكام والتي هي مهمّة غاية في المشقَّة. ولو كان الإمام عليه السلام ظاهراً لانتفت الحاجة لممارسة الاستنباط كمهنة تخصّصية، بل يقتصر الأمر علىٰ الاطّلاع علىٰ الحكم دون حاجة إلىٰ مراجعة الروايات من جهة دلالتها علىٰ الحكم أو خلافه ووجود معارض من عدمه ودون حاجة إلىٰ تأسيس علم الرجال، ولا علم الدراية، ولا لبحث موضوع التعارض، ولا الأُصول العملية ولا مباحث الحجج، ولا مباحث الألفاظ، ولا إلىٰ علم الأُصول.

٢ ـ المهاترات العريضة الطويلة الناشئة من اختلاف الرأي المتولِّد من الرجوع إلىٰ الطُرُق الظنّية المختلفة والفهم المختلف لتعاليم الشريعة المقدَّسة. وقد تفاقمت هذه الاختلافات إلىٰ حدِّ سفك الدماء وإزهاق النفوس، مضافاً إلىٰ الطاقات الهائلة التي أُهدرت في النقض والإبرام الراجع إلىٰ مختلف العلوم الشرعية.

٣ ـ الحرمان من مشورة الإمام المعصوم عليه السلام في الأُمور الشخصية والموضوعات الخارجية، فما أكثر المكاتبات التي يسأل فيها الإمام الحجَّة عليه السلام عن موضوعات خارجية ويطلب في بعضها مشورة شخصية فيشير عليهم ويجيبهم، وقد سُدَّ ذلك الباب من خلال الغيبة.

٤ ـ حالات الضلال المتسبّبة عن دعوىٰ السفارة الكاذبة والبابية والممهّدية والنيابة الخاصّة التي أخذت في وقتها بتلابيب الكثير من أولاد الأُمَّة، ولو كان الإمام ظاهراً مبسوط اليد لخفت تلك الدعوات.

كلّ ذلك كان كعقوبة للأُمَّة التي قصرت بحقّ الأئمّة عليهم السلام حيث لم تكن بمستوىٰ المسؤولية تجاه هذا الفضل العظيم، فكانت بذلك كمن سدَّ أبواب الخير عن نفسه. وقد ورد في بعض الروايات ما يُشير إلىٰ ذلك، فقد جاء في بعضها: (... واعلموا أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة الله عز وجل ولكنَّ الله سيُعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم علىٰ أنفسهم) (2).

وقد يكون من هذا الباب ما ورد عن مروان الأنباري، قال: خرج من أبي جعفر عليه السلام: (إنَّ الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم)(3).

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عيون الحكم والمواعظ: ٤٢٨.

(2) الغيبة للنعماني: ١٤٤/ باب ١٠/ ح ٢.

(3) علل الشرائع ١: ٢٤٤/ باب ١٧٩/ ح ٢.

علامات الظهور (قراءة في المعرفة والتطبيق) ـ تأليف: الشيخ كاظم القره غولّي.

مواضيع قد تعجبك

Execution Time: 0.0512 Seconds