سرداب الغيبة مكان معروف ومعلم بارز في العتبة المقدَّسة في سُرَّ من رأى، ويقع في الجهة الغربية من قبري الإمامين العسكريين عليهما السلام، وقد استمدَّ قدسيته وأهمّيته من علم الناس بكونه جزءاً من بيت الأئمّة عليهم السلام الذي عاشوا فيه أيّام إقامتهم في سامراء وكان موضعاً لمبيتهم وعبادتهم في بعض الأحيان، ثمّ دفن الإمامان الهادي والعسكري في طرف من ذلك البيت، فكان هذا الجزء من الأماكن المباركة التي يذكر فيها اسم الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار.
وقد حاول بعض المؤلّفين أن يخلق من هذا السرداب قصَّة أو أسطورة تقول: إنَّ جيش الخليفة العبّاسي هجم على دار الإمام الحسن العسكري بعد وفاته لإلقاء القبض على ولده المهدي، فرَّ هذا الولد من أيديهم وغاب عن الأعين بدخوله السرداب المشار إليه ولم يخرج منه إلى الآن. وكلّ ذلك من الملفَّق الموضوع الذي لا أصل له في المصادر الموثَّقة ولا يمتُّ إلى واقع الحال بصلة.
وزعم ابن تيمية _ وربَّما أشاع الأعداء ذلك قبل عصر ابن تيمية _ أنَّ المهدي (قد دخل السرداب سنة ستّين ومائتين وله خمس سنين عن بعضهم وأقلّ من ذلك عند آخرين، ولم يظهر عنه شيء)(1).
وكان الوزير الإربلي _ وهو أسبق تاريخاً من ابن تيمية _ قد ذكر هذا الزعم وقال: إنَّ ادّعاء كون المهدي في سرداب (قول عجيب وتصوّر غريب، فإنَّ الذين أنكروا وجوده عليه السلام لا يوردون هذا، والذين يقولون بوجوده لا يقولون إنَّه في سرداب، بل يقولون: إنَّه حيّ موجود يحل ويرتحل ويطوف في الأرض)(٢).
ثمّ استمرَّ القائلون بذلك ممَّن انطلت عليهم تلك الأكاذيب في تكرار هذه المقولة حتَّى اليوم، وكان آخر من أوردها في أيّامنا الحاضرة كاتب اسمه عبد المجيد الشاوي في مقاله المنشور في جريدة الزمان اللندنية تحت عنوان (على مائدة الزمان) تحدَّث فيه عن استعمالات كلمة (الزمان) في التراث العربي، وجاء فيه قوله:
(ومن أجل أنَّ الزمان أشمل من الزمن وأغلب قالوا: المهدي المنتظر صاحب الزمان، وعلى جهة الاستطراد المفيد أقول لك: إنَّ المهدي المنتظر صاحب الزمان هو من الحقائق المجمع عليها في ملَّة الإسلام، سوى أنَّ الشيعة تقول: إنَّه محمّد بن الحسن العسكري دخل سرداب الدار في سامراء سنة ٢٦٥هـ وهو ابن تسع سنوات ولم يخرج منه، وهو حيّ إلى اليوم)(3).
وما أدري كيف سوَّغ هذا الكاتب لنفسه أن ينسب إلى الشيعة هذا القول من دون إشارة إلى من قال ذلك من علمائهم ومؤلّفيهم ومؤرّخيهم، ومن دون ذكر لمصدر هذا القول في الكتب والمؤلّفات الشيعية، ممَّا يدلُّ على أنَّه اعتمد على الإشاعات التاريخية المغرضة بلا سندٍ أو تحقيق.
وقد استوفى أحد الباحثين المعاصرين _ وهو المرحوم الشيخ المحلاتي _ الكلام في هذا الموضوع استيفاءً تامّاً شاملاً في كتابه تاريخ سامراء، وبيَّن الحقيقة على نحو صحيح وسليم من الشوائب والأباطيل، وأنا أروي فيما يأتي معظم كلامه بالنصّ لأنَّه عين الصواب وفصل الخطاب.
قال الشيخ رحمه الله متحدّثاً عن الإمام المهدي عليه السلام:
(لمَّا توفّي أبوه غاب عن الأنظار، لا أنَّه دخل في السرداب واُمّه تنظر إليه كما توجد هذه العبارة في بعض كتب العامّة، وإنَّ الشيعة الإمامية تبرأ من هذه المعتقدات التي يلصقها بهم من أراد الحطّ من كرامة مذهبهم بما لم تجوّز له الشريعة الإسلاميّة)(4).
وقال وهو يتحدَّث عن السرداب:
(ليس اشتهار هذا السرداب بسرداب الغيبة لأنَّ الحجّة عليه السلام غاب فيه كما زعمه من يجهل التاريخ، بل لأنَّ بعض الأولياء تشرَّف بخدمته فيه، وأنَّه مبيت الثلاثة من الأئمّة عليهم السلام وموضع تعبّدهم...، ولذلك صار من البقاع المتبرّكة.
وكان هذا السرداب داخل البيت، وله طريق في البناء القديم من وراء مرقد العسكريين عليهما السلام عند قبر اُمّ القائم...، وكان الزائر ينزل في الدرج ويمشي في أزج حتَّى يدخل السرداب من جهة قبلته، وكان الأمر كذلك إلى حدود عام اثنين ومائتين بعد الألف، فلمَّا تصدّى لعمارة هذه البقعة المباركة الملك أحمد خان الدنبلي (من حكّام أذربيجان) جعل للسرداب باباً من جهة الشمال وسدَّ باب القبلة...، وهو اليوم (أي يوم كتابة هذا الشرح) له عشر درجات مفروشة بالرخام، ينزل الزائر منها إلى رحبةٍ لا يقلُّ طولها عن ثلاثة عشر ذراعاً.
والباب المشبَّك الخشبي المنصوب على الصفّة في السرداب المقدَّس في يومنا هذا من الآثار الباقية للإمام المستنصر العبّاسي، وقد عمله في سنة ست وستمائة _ وكان العلاَّمة النوري قد ذكر في كشف الأستار...، أنَّ الناصر لدين الله أحمد بن المستضيء بنور الله من خلفاء العبّاسية هو الذي أمر بعمارة السرداب _، وهذا الخشب من التحف والآثار الثمينة، ولقد مضى عليه إحدى وخمسون وسبعمائة سنة وهو بعدُ جديدٌ كأنَّه من صنع اليوم)(5).
(ولمَّا رأت سدنة المكان رغبة المؤمنين في زيارة تلك البقعة جعلوا يأخذون تراب ذلك المكان ويعطونه الزائرين بإزاء دراهم معدودة، فأدّى ذلك إلى أن حُفرت تلك البقعة مقدار درجتين. ثمّ تصدّى إلى طمّها العلاّمة الكبير الشيخ عبد الحسين الطهراني رحمه الله.
ثمّ حفرها بعض السدنة لمقاصدهم الخاصّة وسمّوها بئر صاحب الزمان، فكثرت شكوى الزائرين في عصر آية الله المجدّد الميرزا محمّد حسن الشيرازي طاب رمسه، فعمل بعض العوام باباً فضّياً على حدّ فم البئر ونصبه عليها، فلم تمرّ الأيّام والليالي حتَّى سُرق الباب وعاد الأمر كما كان، وأنَّ آية الله المجدّد رحمه الله لم يتمكَّن من تغيير ذلك إلى أن زالت الدولة العثمانية من العراق.
فسعى في طمّ البئر المولى الحجّة الميرزا محمّد الطهراني فطمَّها بمعونة الحكومة وفرشها بالرخام الصقيل، ومع ذلك فقد فعل بعضهم ثقباً تحت الرخام ووسطه بمقدار أن تدخل الكفّ فيه لأخذ التراب، وربَّما وضعوا التراب فيه من الخارج لإعطائه الزائرين الذين لا يعلمون حقيقة التراب.
ونظير هذه المشكلة البئر التي عند الباب الذي يفتح إلى صحن الحجّة عليه السلام غرباً، حيث يزعم عوام الناس أن قطرة من حليب ثدي حكيمة بنت الإمام الجواد عليه السلام وقعت فيها...، ويزدحم العوام على البئر ويأخذون من مائها ويتبرَّكون به، وكان على رأس البئر بعض السدنة يأخذ منهم بعض الدراهم ويعطيهم شربة منه، ولعمري إنَّ هذا من حيل بعض السدنة، وهو جهل مفرط سيطر على بعض الجهّال من الزائرين. وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه العلاَّمة المحدّث الميرزا حسين النوري قدس سره في مزاره المسمّى (تحيّة الزائر) الفارسي المطبوع)(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منهاج السُنّة ٢: ١٣١، و٤: ٢١٢.
(٢) كشف الغمّة ٣: ٢٩٦.
(3) جريدة الزمان/ السنة السادسة/ العدد (١٥٢٥/٨)/ حزيران ٢٠٠٣م/ ص ٩.
(4) تاريخ سامراء ١: ٢٩٢ و٢٩٣.
(5) تاريخ سامراء ١: ٢٨٨.
(6) تاريخ سامراء ١: ٢٨٨ - ٢٩٢.
المصدر : المهدي المنتظر بين التصوّر والتصديق ـ تأليف: سماحة الشيخ محمّد حسن آل ياسين رحمه الله (١٣٥٠ _ ١٤٢٧هـ).
موقع ديني مختص في مسائل الإمام المهدي (عج) تابع لشعبة البحوث والدراسات - ق. الشؤون الدينية - الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة